
بقلم الإعلامية اللبنانية: مايا إبراهيم
في عالم يركض نحو النسيان، تظل بعض الأقلام تحفظ الذاكرة من التآكل، وتعيد تشكيل الوجدان الجمعي بوعي وجمال. من بين هذه الأصوات، يبرز اسم (حسن م. يوسف) كأحد أبرز الكتّاب السوريين الذين اختاروا أن يُقاوموا بالسرد، وأن يُنادوا بالحقيقة حتى وهي تئن تحت الركام. هو ليس كاتباً عابراً في الصحافة أو الدراما، بل مفكر عابر للأزمنة، لا يكتب ليُرضي، بل ليوقظ.
ولد (حسن م. يوسف) في العام 1948، عام النكبة، كأن قدَرَ الكتابة عنده قد ارتبط منذ البداية بجروح الأمة، من قرية (الدالية) في ريف اللاذقية، حمل معه دفء الجبل وأحلام البحر، وسار بخطى ثابتة نحو عالم الكلمة، حيث لا موطئ قدم إلا للصدق، لم يكن الصحفي الذي يسأل ليكتب، بل الذي يكتب ليحاور، ليصطدم، ليبني، وليهدم ما يجب هدمه.
في الصحافة، كان عمود (حسن م. يوسف) بعنوان (على مسؤوليتي) في صحيفة تشرين نافذة لأجيال، لم يكن فيها مجرّد رأي أسبوعي، بل بوصلة فكرية تتأرجح على حبل الحقيقة. بأسلوبه الساخر حيناً، والعميق دائماً، واجه القضايا الكبرى من موقع المثقف العضوي، لا المتفرج المحايد. كتب عن الوطن كأنه قلبه، وعن الإنسان كأنه مرآته، وعن الخيبات كأنه عاشها جميعاً.
أما في الدراما، فقد تجاوز مفهوم (الكاتب التلفزيوني) ليصير صاحب مشروع سردي واضح، يقوم على مقاومة السطحية وإعادة الاعتبار للمعنى، مسلسل (أخوة التراب) لم يكن عملاً فنياً فقط، بل وثيقة وطنية، تعرّي لحظات الانقسام والانكسار في تاريخ سوريا الحديث.
وفي (في حضرة الغياب)، ارتقى بالنص الدرامي إلى مستوى الشعر، مستعيداً روح محمود درويش لا كمجرد شخصية، بل كموقف وجودي. أما (حارس القدس)، فهو ذروة مشروعه؛ عمل نادر يُجسّد راهباً مسيحياً كمقاوم، ويعيد كتابة العلاقة بين الدين والوطن، بين العقيدة والكرامة.

الثقافة ليست ترفاً
ما يميّز (حسن م. يوسف) في كل ما كتب، هو أنه لا يختبئ خلف الشخصيات، ولا يوارب في المعنى.. هو الكاتب الذي يشبه كتاباته، في وضوحه، في استقامته، وفي توتره الداخلي النبيل.. لا يكتب من أجل الجوائز أو الشهرة، بل من أجل الوفاء لتلك الشعلة التي تُدعى الضمير.
لم يتوقف (حسن م. يوسف) يوماً عن الإيمان بأن الثقافة ليست ترفاً، بل ضرورة حياتية، وأن الكلمة الصادقة قد تكون سلاحاً أخطر من الرصاص.. لذلك كان في مرمى الهجوم مراراً، وانتُقد لأنه (يُحرّض)، لكنه لم يساوم، ولم يتراجع.. ظل على قناعة بأن الكاتب الحقيقي لا يُرضي الجميع، بل يُحرّك السواكن ويهزّ المسلمات.
ورغم تجذره في الوطنية السورية، لم يكن (حسن م. يوسف) يوماً ضيّق الأفق، كان عروبياً حقيقياً، لا بالشعارات بل بالممارسة.. في كتاباته عن فلسطين، كان ينزف كما لو أنه من غزة، وفي مقالاته عن العراق ولبنان واليمن، كان يمارس دور المثقف الذي يصرخ من أجل الإنسان، لا من أجل حدود أو أيديولوجيا.
ومثلما كتب للمسرح والدراما، كتب (حسن م. يوسف) أيضاً الرواية والقصة، في (الآنسة صبحا)، قدّم سردية مختلفة عن الحرب والهامش والذاكرة.. وفي (عبثاً تؤجل قلبك)، اقترب من تخوم الحب والخذلان، بأسلوب يمتزج فيه الحنين بالفلسفة، والواقعية بالتجريد.
(حسن م. يوسف) هو من الكتّاب الذين لا تُقاس أهميتهم بعدد الكتب أو الأعمال، بل بمدى تأثيرهم في الوعي العام.. هو الكاتب الذي يجعل قارئه يُعيد النظر في أفكاره، ويطرح الأسئلة، حتى ولو لم يجد أجوبة.. في زمن يضجّ بالسطحية، هو عمق نادر. وفي مشهد تتبدّل فيه المواقف كما تتبدّل المواسم، هو شجرة صلبة الجذر.
بكل بساطة: (حسن م. يوسف) هو شاهد لا يساوم، وكاتب لا يخذل، وإنسان لم يخن يوماً فكرة الحرية، لا في الموقف ولا في الجملة.
كثيراً ما نتساءل عن الميم، ما هى حكاية حرف (الميم) الذي يتوسط اسمك؟
يقول (حسن م. يوسف): ترسخت لديَّ قناعة خلال السنوات الماضية أن اسمي من البالة ففي العائلة لدينا نصف دزينة من الحسنات اليوسفات وفي حياتنا العامة يتكاثر الحسنون اليوسفون بتسارع متزايد، على سبيل المثال (حسن يوسف) الممثل المصري المعروف و(حسن يوسف) السيناريست والروائي العربي الفلسطيني المقيم في دمشق و(حسن يوسف) الوزير اللبناني السابق… الخ.

وضعني في مواقف محرجة
والحقيقة هو أن هذا الاسم قد وضعني في الكثير من المواقف المحرجة، لكن أطرف تلك المواقف هو ما جرى معي عندما سافرت في مهمة صحفية إلى الهند أنا والزميل (حسن يوسف).
في مطلع الثمانينيات فقد كان كل منا يحمل جواز سفر مهمة من وزارة الخارجية، وفي هذا النوع من الجوازات لا تدون أية معلومات تفصيلية عن حامل الجواز، لدرجة أن موظف الجوازات الهندي ارتبك كثيراً عندما وجد بين يديه جوازي سفر لا فرق بينهما سوى الصورة، فقال على سبيل الدعابة: (هل لديكم أزمة أسماء في سورية؟).
كنت أدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة آنذاك وبما أن الأسماء المختصرة شيء شائع جداً في الأدب الإنجليزي (د.ه. لورانس، ت.س. إليوت، إ. م. فورستر… إلخ) فقد قررت أن أضع حرف (م) في منتصف اسمي كناية عن (محمد) لأنه يوجد شخص أعرفه يكتب الشعر العمودي ويدعى (حسن محمد يوسف).
وقد كان هدفي من ذلك هو عدم اختلاط ظلي بظلال الآخرين، لأنني أعتقد أن الاسم علامة لا كرامة، لكنني اكتشفت لاحقاً أن هذه الميم تستفز بعض الناس، خاصة المحافظين منهم، ويبدو أنها لم تفقد هذه الخاصية بمرور الزمن، فرغم أن هذه الـ (م) تتوسط اسمي منذ حوالي ثلاثة عقود، إلا أنه لا يمضي نهار إلا ويسألني شخص أو أكثر عن معناها.