(محمد التابعي).. أسطورة الصحافة المصرية وأميرها المنسي!


بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
أول ما تفحت عيني على الصحافة كنت في المرحلة الإعدادية، حيث عزمت على إصدار مجلة حائط أسبوعية بعنوان (الزهور)، وكان تبويبها يشمل (زهرة في الفن، زهرة في السياسة، زهرة في الأدب، زهرة في الاقتصاد)، وغيرها من الأبواب الصغيرة التي تحمل الحكمة والمفارقة، وكان دافعي لكل ذلك أني وقعت على سيرة الدقهلاوي العظيم الكاتب الصحفي الكبير (محمد التابعي).
كان (محمد التابعي) علامة فارقة في حياتي الصحفية التي بدأت بمجلات الحائط، التي كنت أكتبها وأخرجها بلمسات من ألوان الشمع التي برعت من خلالها في تلوين الصفحات البيضاء – آنذاك – حيث أصدرت أطول مجلة حائط بعنوان (كرباج)، بطول الصالة بمركز شباب قريتنا (الدراكسة) التابعة لمحافظة الدقهلية، مع صديقي الكاتب الصحفي الكبير (محمد البرغوثي).
وبوحي من حياة أستاذي الأول (محمد التابعي).. أسطورة الصحافة على مدى نصف قرن، وأحد أبرز من عمل فى بلاط صاحبة الجلالة، ومن شرفاء العلم وفرسانه، الذي كانت تحل ذكرى ميلاده أمس 18 مايو (18 مايو 1896)، تعلمت – عن بعد – أسس الكتابة السهلة البسيطة، ثم انخرطت في المشاركة في عدد من مجلات (الماستر) التي صرعة الثمانيات من القرن الماضي.
لم يكن يلفت نظري في سيرة (محمد التابعي) كل الألقاب التي نالها (محمد التابعي) ومنها: (طائر الصحافة المغرد، أسطورة الصحافة المصرية، وأميرها المتوج، دونجوان الصحافة) بقدر ما ركزت على أسلوبه في الكتابة الصحفية، حيث أنه أول من صنع لها (ستايل) نقلها من الكتابة الأدبية – رغم أنه كتب وترجم المسرح والرواية – إلى الكتابة الصحفية بمفهومه البسيط.
ويبدو لي أن (محمد التابعي) صنع هذا الـ (ستايل) في الكتابة بحكم أنه عاش حياته بكل المتناقضات، فذاق القهر والحرمان واستمتع بالحياة كأصحاب الملايين، عشق الراقصات والأميرات، نام على مقعد في بدروم بعمارة الشاعر أحمد شوقي بشارع جلال، حيث كانت إدارة مجلة (روز اليوسف) في أيامها الأولى.
ونام في الجناح الملكي بفندق (جورج سانك) بباريس، كان يركب الدراجة وينتقل بها من إدارة المجلة إلى المطبعة، وامتلك السيارات من أحدث طراز في زمن كانت السيارة وقفاً على الباشاوات والأغنياء.

ذاق الجوع والحرمان
ذاق (محمد التابعي) الجوع والحرمان في بداية حياته، ثم بعد سنوات قليلة أصبح يقيم في بيته مآدب ملكية يحضرها الوزراء والعظماء وتغنى فيها (أم كلثوم، وأسمهان، وليلى مراد.
توج (محمد التابعي) لسنوات طويلة ملكا على عرش صاحبة الجلالة، والصحفي المشاكس، وأمير مملكة النساء، وأستاذ الكلمة وأمير القلم والبرنس ومؤسس حرية الرأي في الصحافة المصرية، استطاع بكتاباته إحداث ثورة في بلاط صاحبة الجلالة، أصدر مجلة (آخر ساعة)، وبعدها جريدة (المصري) مع (محمود أبو الفتح)، وصادق الملوك والأمراء.
كان (محمد التابعي) كاتبا سياسيا فذا، امتاز بحسن الدعاية وخفة الظل، يعتبر أستاذ الجيل الصحفي المعاصر، استهوته الصحافة وهو طالب بالحقوق، ترجم الروايات المسرحية التي مثلها يوسف وهبي، عرف منذ صغره بحب الابتكار، فجاء توقيعه (حندس) على مقالاته الفنية في الأهرام شيئا جديدا، مما لفت الأنظار إليه في الأوساط الصحفية والفنية.
عن نفسه يقول الصحفي (محمد التابعي): أحيانا أسرف حتى السفه، وأحيانا أمسك يدي إلى درجة البخل الشديد، وأحيانا أثور لأتفه الأسباب، وأحيانا أصفح عن الخطأ الشنيع، وكثيرًا ما جلست إلى مكتبي وفي رأسي فكرة معينة أريد أن أكتب فيها.. فما أكاد أمسك القلم إلا وأجدني أكتب في فكرة أخرى، وفي رأي آخر، أنا كما ترون مجموعة من المتناقضات.
ولد في مثل أمس 18 مايو 1896 الكاتب الصحفى (محمد التابعي) في مصيف بحيرة المنزلة بمحافظة الدقهلية ونُسِب إلى التابعي تبركًا بالشيخ التابعي بقريتهم، وبعد حصوله على الابتدائية حضر إلى القاهرة والتحق بالسعيدية الثانوية مع زميل دفعته (فكري أباظة)، ثم التحق بكلية الحقوق.
ولظروفه العائلية لم يستكمل الدراسة فيها فعمل موظفًا في مصلحة التموين، ودرس في المساء حتى حصل على الليسانس من منازلهم.
وعن مرحلة الطفولة في حياته قال (محمد التابعي): في الحارة قضيت طفولتي ألعب حافيا وأمسك في يدي سيفا من الصفيح ودرعا وخوذة كلفوني قرشين فقط وتفننت في مبارزة فريق (الزير سالم) في مواجهة (الزناتي خليفة)، كنت أتردد على مكتبة في سوق الخواجات يملكها الشيخ (سعيد حلقة)، وأبدأ القراءة فيها لمّا كان صاحبها يرفض الاستعارة فقرأت (ألف ليلة وليلة، وقصص سيف ذي يزن، وحمزة البهلوان).

كتب في الأهرام باسم (حندس)
بدأ (محمد التابعي) كتابة المقالات السياسية فى مجلة (الإجيبسيان ميل)، ثم مجلة (روز اليوسف) دون توقيع مما زاد من توزيعها وارتفع ثمن المجلة من 5 مليمات إلى قرش صاغ، وكتب بعدها مقالات فنية نقدية للمسرح في جريدة الأهرام بتوقيع مستعار (حندس)، لكنه تعلق بالكتابة السياسية فكتب النقد السياسي بأسلوب النقد المسرحي.
وتتلمذ على يديه عمالقة الصحافة والسياسة والأدب منهم (كامل الشناوي، محمد حسنين هيكل، والأخوان مصطفى وعلي أمين، وأحمد رجب، وجليل البنداري، وإحسان عبد القدوس) وغيرهم، واستطاع نقل صاحبة الجلالة من صحافة المقال إلى صحافة الخبر.
كانت مقالات الصحفي (محمد التابعي) تسقط الوزارة، وتهز عروش الحكومات وتضرب الفساد والفاسدين في مقتل، كاتب نظيف يعيش حياته كالملوك والأمراء، يعتد بنفسه إلى أبعد ما يكون الاعتداد والثقة بالنفس.
فكتب مقالات شهيرة عن الخلاف بين القصر والوزارة النحاسية، وغضب منه الوفد حتى إنه أعلن بنفسه بأنه لا صلة لـ (آخر ساعة) بحزب الوفد.. وكانت أول سابقة تتبرأ فيها جريدة في مصر من حزب الوفد.
شعار (محمد التابعي) الذي اتبعه في عمله الصحفي، كان: (أن يفوتك 100 سبق صحفي أفضل من أن تنشر خبرا كاذبا، وأن تلتزم بالأمانة الصحفية أفضل وأشرف من أن تكون صحفيًّا شهيرا.. ليته ولد في هذا العصر الذي برع في نشر الأكاذيب في الصحف والمواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا التي ترتكب أبشع جرائم النشر والفضائح.
صحيح أن (محمد التابعي) اشتهر بعلاقاته النسائية ونسجت حوله الأساطير العاطفية حتى إنه لقب بأمير مملكة النساء وأحب المطربة أسمهان، لكنه لم يثبت أنه تزوجها، وكذلك الممثلة (زوزو حمدي الحكيم)، فلا يوجد حتى الآن مايثبت ذلك، لكنه تزوج السيدة (هدى التابعي)، وعاش معها حتى الرحيل، وأنجب منها ابنه (محمد)، وابنته (شريفة).
أسس محمد التابعي مجلة (آخر ساعة) عام 1934، وبعدها جريدة (المصري) مع محمود أبو الفتح عام 1936، انتقلت مقالاته إلى جريدة (الأخبار)، وكان الصحفي الوحيد الذي كان يرافق العائلة المالكة في رحلاتها الطويلة لأوروبا.
قال عنه (مصطفى أمين): كانت مقالاته تهز الحكومات وتسقط الوزارات ولا يخاف ولا يتراجع، وكلما سقط على الأرض قام يحمل قلمه ويحارب بنفس القوة ونفس الإصرار، وقال يوسف وهبي: الصحفى (محمد التابعي) هو الوحيد الذي يعطيني السم في برشامة.
عُرف محمد التابعي بشجاعته وقوة شخصيته، وكان يعبر عن آرائه بحرية تامة في زمن كانت الحرية الصحفية مقيدة، وقد أثار مواضيع حساسة وقضايا سياسية مثل الاستعمار والاستقلال والحرية الشخصية، كما كان له دور كبير في دعم حقوق المرأة والمطالبة بالمساواة بين الجنسين.

علم (هيكل) الصحافة
يعتبره الكاتب الصحفى (محمد حسنين هيكل) من أساتذته الكبار، وأستاذا لغيره من نفس الجيل الذى خطا إلى عالم الصحافة العربية مع مطالع الأربعينيات من القرن العشرين، ويذكر (هيكل) فى مقدمته لواحد من أشهر كتب (التابعى) بعنوان (من أسرار الساسة والسياسة، وأحمد حسنين باشا): أستاذي الأول (اختلف مجال الكتابة الصحفية بعده عما كان قبله).
موضحا: ليس المقصود أن الكتابة الصحفية قبل (التابعى) كانت أقل وزنا أو أدنى قيمة، فكان هناك قبل وغير (التابعى) كتاب لهم شأن ومقام، لكن (التابعى) أضاف شيئا آخر، إذ صاغ أسلوبا مختلفا فى التناول الصحفى، وهذا الاختلاف الذى أحدثه هو نعومة الكلمة، وانسياب الكلام.
أى أن هناك إضافتين تحسبان للتابعى، إحداهما فى اللفظ، والثانية فى السياق، وبالنسبة للإضافة الأولى، فإنه يبدو وكأن الألفاظ كانت على نحو ما فى حالة عشق مع قلم التابعى، فما إن يضع سن القلم على صفحة الورق حتى تذوب المعانى والصور لينة سائلة على السطور، وبالنسبة للسياق، فإن أى قارئ لكتابات (محمد التابعى) سوف تنكشف له قاعدة سمعته يكررها علينا كثيرا، مؤداها: (أن القصة فى التفاصيل).
يراه الشاعر والكاتب الصحفى كامل الشناوى (منقذ الصحافة)، و(الجد الأكبر للصحافة الحديثة)، يضيف: (أستاذنا محمد التابعى استطاع بموهبة وذكاء أن ينقذ فن الصحافة من السجع والمحسنات اللفظية وأدوات التجميل، ويخلصها من طنين المبالغة، واصطناع البلاغة، وبهذا التجديد الجرىء استطاع أن يتواصل مع القارئ المصرى الجديد، أى المواطن).
عاش (محمد التابعى) الحياة بطولها وعرضها، وبوصف (حافظ محمود): (كانت عبقريته تقربه من الرجال، وكانت آدميته تقربه من النساء، لكنه كان صحفيا يسخر كل علاقاته لحساب فنه الصحفى)، ويذكر (هيكل): (كان ظاهرة مستجدة على العلاقة بين الصحفى والأمير، كتب عن الملك فاروق وعن الملكة نازلى وعن أحمد حسنين باشا، وغيرهم من موقع المعايشة، وفى بعض المشاهد فإنه هو نفسه كان جزءا من الصورة).

هل أروى كل ما سمعت
لأنه التزم الصدق مع النفس فقد ذكر (محمد التابعي) بنفسه فى مقدمته لكتاب (من أسرار الساسة والسياسة): (اشتغلت بالصحافة ثلاثين عاما، وعرفت فيها عشرات وعشرات من الزعماء والساسة، وربطتنى ببعضهم أواصر الصداقة والثقة، وبوحى هذه الصداقة والثقة أفضى إلىّ بعضهم بأسرار كثيرة، وكشف أمامى بعضهم عن مكنون صدره بل وعن خفايا ضعفه، فهل أروى كل ما سمعت أو بعض ما سمعت؟
كان طرحه لهذا السؤال ردا على رفضه لمطالب بكتابة مذكراته، مضيفا: (من ذا الذى يستطيع دائما أن يقول الحق، كل الحق ولا شىء غير الحق؟، وإذا نشرت مذكراتى فهل أقول فيها كل ما أعرف، وكل ما سمعت، وكل ما رأيت؟.
وبالرغم من أنه كان طرفا فى الحكايات التى تضمنتها كتبه خاصة (أسمهان تروى قصتها، من أسرار الساسة والسياسة وأحمد حسنين باشا، وبعض من عرفت، ونساء فى حياتى)، إلا أنه يؤكد أن هناك الكثير والكثير لم يقله، كالذى عرفه من ملك الأفغان الأسبق (أمان الله) عن زوجته الملكة ثريا.
والملك فاروق (الطاغية الذى لا أستطيع أن أكتب وأروى عنه كل ما أعرف لأننى، إنسان)، و(فؤاد سراج الدين ومكرم عبيد، ومصطفى النحاس، وأحمد حسنين باشا)، وغيرهم.
وضع (محمد التابعي) الأسس الكاملة لأخلاقيات الصحفة المصرية والعربية الحديثة، ولذا فأهم ما ينفرد به من سمات ما يلي:
1- البساطة والبعد عن التعقيد، قريب من الحديث العادي، مما جعل له جاذبية خاصة.
2- تتسم مقالاته وكتاباته وخواطره بأسلوب متجدد.
3- حول أسلوب النقد المسرحي إلى نقد سياسي.
4- تميزه بعبارات يصف بها الساسة الذين كان ينقدهم أكثر من اشتهارهم بصفاتهم الأصلية.
رحم الله الكاتب الصحفي الفذ (محمد التابعي) الذي وضع لنا دستور في المهنة ينبغي أن نتمسك به، حيث يقول:
* (أن يفوتك 100 سبق صحفي أفضل من أن تنشر خبرا كاذبا).
* (رسالتي الصحفية أن أحارب الظلم أيا كان، وأن أقول ما أعتقد أنه الحق ولو خالفت في ذلك).
* (أنا لا أسكت على الحال المايل، رأيي أن الصحافة تستطيع أن توجه الرأي العام، وليست أن تتملقه أو تكتب ما يسره أو يرضيه).
ليتنا نتعلم من هذا المهني الصادق مع نفسه وبلده قبل أن تزحف علينا التكنولوجيا لتلوث حياتنا الصحفية بقبحها وجبروت أكاذيبها التي تنال من مهنة القلم.. أعظم مهنة في التاريخ الإنساني.


كثير من المواقف والمفارقات
في حياة (محمد التابعي) كثير من المواقف والمفارقات المذهلة تحتاج لسرد مطول عبر سيرته التي تحتاج لمجلدات، ونعدكم بأننا سوف نتعرض لها تفصيليا إذا كان في العمر بقية في ديسمبر 2026 في ذكرى رحيله الـ 50 بإذن الله.
رحل (محمد التابعي) عن 81 عاما، بسبب إصابته بجلطة، تأخرت جنازته يومين حتى يتم تجهيز جنازة تليق بأكبر صحفي مصري، وأعلنت رئاسة الجمهورية بيانا في الصحف يقول: (قرر الرئيس أنور السادات حينما علم بوفاة الكاتب الصحفي محمد التابعي أن تكون جنازة الصحفي محمد التابعي من ميزانية رئاسة الجمهورية، كما أرسل السادات مبعوثا خاصّا إلى أرملة الفقيد للتكفل بكل ما تقتضيه الجنازة.
خرجت جنازة مهيبة للراحل الفقيد الصحفي محمد التابعي من مسجد عمر مكرم، حضرها كبار رجال الدولة على رأسهم مندوبا عن الرئيس السادات والسيد حسين الشافعي، والمهندس سيد مرعي، والدكتور عبد القادر حاتم، والدكتور جمال العطيفي وزير الثقافة والإعلام في ذلك الوقت، وجميع الكتاب والصحفيين ورواد الفكر والقلم وعدد كبير من الفنانين.