رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عندما صرخ كل الأبناء: (هييييييه.. أبويا اتحرق) في (مدرسة المشاغبين)!

عندما صرخ كل الأبناء: (هييييييه.. أبويا اتحرق) في (مدرسة المشاغبين)!
يمتد أثر تلك السخرية لتصبح دعوة الى التمرد على كل سلطة أبوية

بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد

في أحد البرامج على قناة عربية تم اختيار 30 ناقد من دول عربية مختلفة لاختيار افضل 20 مسرحية كوميدية ، فجاءت مسرحية (مدرسة المشاغبين) على رأس القائمة، وهنا ثار بعض من النقاد و المثقفين المهتمين بالشأن العام الذين لم يشاركوا في البرنامج.

واعترضوا على ذلك الاختيار، فمازالت مسرحية (مدرسة المشاغبين) التي عرضت لأول مرة في أكتوبر 1971، تُتهم بعد أكثر من نصف قرن من إنتاجها بأنها أفسدت الذوق وقدمت نموذجا سيئا للشباب بسبب سخريتها من رموز السلطة المدرسية التي تتمثل في ناظر المدرسة.

ويمتد أثر تلك السخرية لتصبح دعوة الى التمرد على كل سلطة أبوية أيا كان نوعها ومصدرها، و أن هذا  أدى الى انهيار القيم و المثل العليا و سبب الفوضى و أشاع الانحطاط.

والحقيقة أن مسرحية (مدرسة المشاغبين) تحمل في داخلها ما هو أكثر من ذلك بكثير، والاقتصار على رؤيتها كعمل فنى أساء إلى (قيم و مبادئ) المجتمع فيه كثير من التجنى وعدم الفهم للظرف التاريخي الذى ظهرت فيه المسرحية.

ولكن قبل الخوض في هذا الحديث لابد و أن نسجل مجموعة من الحقائق:

أولها أن اختيار النقاد لها كأفضل مسرحية كوميدية عربية فيه كثير من الوجاهة، فالمسرحية من أنجح المسرحيات على المستوى الجماهيرى ، فلقد عرضت لسنوات طوال في سابقة كانت تحدث لأول مرة فى تاريخ المسرح المصري.

فقد كان الاقبال عليها شديدا حتى ان بعض الجامعات والمدارس كانت ترسل رحلات صيفية لمشاهدة العرض بالإسكندرية، بالإضافة إلى أنها أول مسرحية فى التاريخ يتسرب لها تسجيل صوتى – في زمن سطوة الكاست – ظل لسنوات يتم تداوله و تذيعه بعض المحلات كترويج لبضائعها و لتضمن اقبال الزبائن عليها خاصة المطاعم ومحلات العصير!

عندما صرخ كل الأبناء: (هييييييه.. أبويا اتحرق) في (مدرسة المشاغبين)!
أول مسرحية يتم تصويرها للتليفزيون وتذاع على قنوات أرضية غير مشفرة

أول مسرحية مصورة للتليفزيون

وهى أول مسرحية يتم تصويرها للتليفزيون وتذاع على قنوات أرضية غير مشفرة – بمعنى أن هناك ملايين شاهدوها – ثم تعود لتعرض على خشبة المسرح، و يقبل عليها الجمهور مرة أخرى برغم أنها أصبحت محفوظة و لدرجة ان يسبق الجمهور الممثلين في إلقاء الايفيهات، حتى اضطر الممثلون إلى تغيير الكثير منها ولكن الجمهور كان يطالبهم بما قالوه في النسخة الأولى!

و(مدرسة المشاغبين) أيضا أول مسرحية يتم تسجيلها للتليفزيون مرتين أحد التسجيلات هو ما نراه عادة والثانى نسخة ملونة تم تسجيلها بعد الأولى بسنوات، وهى أول مسرحية تستخدمها الحكومة لإبقاء الشعب في البيوت، فلقد تمت إذاعتها ليلة حظر التجوال في انتفاضة يناير 1977، وعند وقوع أحداث الأمن المركزي 1986، وليلة زلزال 1992.. إذن هى مسرحية جماهيرية بامتياز.

بالإضافة إلى أن ظهور تلك المسرحية كان مؤشرا على بداية حقبة اجتماعية و سياسية جديدة لها ذوق مختلف و بالتالى لها نجومها الجدد و طريقة جديدة في الإضحاك، وكما كل الأحداث الهامة بدأت بالصدفة.

فقد تخلى نجوم فرقة المتحدين عنها تباعا (فؤاد المهندس – شويكار – أمين الهنيدى) واتجهوا إلى تكوين فرقهم الخاصة، وأصبح صاحبها (سمير خفاجى) مهددا بالإفلاس، ولكنه آمن بجيل جديد رأى أنه يشق طريقه بعناد، فقرر أن يغامر بهم.

وحاول أن يساندهم بنجوم في أولى تجاربهم فعرض دور المدرسة على الفنانة (نجلاء فتحى والفنانة شادية)، ثم استقر الأمر على الفنانة (سهير البابلي)، ووضع على رأسهم الأستاذ (عبد المنعم مدبولي) الذى كان نجما عنهم.

والغريب أن  الفنان (عادل إمام) اعتذر عن المسرحية أثناء البروفات بسبب أن مساحة الضحك (قليلة)، وقال هذا الدور يصلح للفنان (شكرى سرحان)، على اعتبار أنه دور جاد ليس به مساحة للكوميديا، ولكن المخرج جلال الشرقاوى أقنعه بالاستمرار، ومن الغريب أيضا أنه تم تبادل الأدوار بين (سعيد صالح و عادل إمام) أثناء البروفات أيضا ، فكل منهما في البداية كان يلعب دور الآخر.

وربما يفسر لنا هذا سر الخلاف على (من كتب المسرحية؟) ، فبرغم إعدادها عن فيلم (إلى أستاذى مع حبى) للنجم (سيدنى بواتييه)، إلا أنه هناك نزاع على نسبة النسخة العربية المقتبسة عن الفيلم.

فالمتداول أن المؤلف (على سالم) هو صاحب الإعداد الأصلى، ألا أنه في الكواليس كان يتردد أن الكاتب (عبد الرحمن شوقى) هو صاحب الإعداد برغم أن اسمه مكتوب عليها كشاعر ومؤلف للأغاني فقط.

فأغلب الظن – و ليس كل الظن اثم – أنه كتب الأغانى وأعاد صياغة العمل كله، وهذه واقعة تكررت في مسرحيات للقطاع الخاص كثيرة أن يتم الاستعانة بكاتب غير المؤلف الأصلى ليعيد كتابة النص من أجل إضفاء روح الكوميديا إليه.

عندما صرخ كل الأبناء: (هييييييه.. أبويا اتحرق) في (مدرسة المشاغبين)!
لماذا لم يوضع اسم (عبد الرحمن شوقى) وحده؟

اسم (عبد الرحمن شوقى)

فلماذا اذن لم يوضع اسم (عبد الرحمن شوقى) وحده؟، في ذلك التوقيت كان هناك تضييق على كل من له صلة قرابة أو نسب بالكاتب الكبير (محمود السعدني) بعد سجنه في قضية مراكز القوى (مايو 1971)، حتى الفنان صلاح السعدنى لم يسلم من هذا التضييق، و ربما لم يكن أمرا فرضته الحكومة وكان اجتهادا من موظفين يحبون أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك !!

وعندما عرضت (مدرسة المشاغبين) صادفت إقبالا غير مسبوق لتصبح (أيقونة نجاح) مهما تغيرت الشخوص، فقد اعتذرت الفنانة سهير البابلى بعد فترة من العرض لتحل محلها الفنانة (ميمى جمال)، ثم تعود (سهير البابلي) مرة أخرى للعمل، ولكنها تعتذر للمرة الثانية فتحل محلها الفنانة (نيللي)، ثم تعود (البابلي) إلى المسرحية.

و حل الفنان حسن مصطفى في دور الناظر – بدلا من دور الملوانى – بعد اعتذار مدبولى عن الاستمرار، بل إن الفنان (صلاح السعدني) لعب لفترة قصيرة جدا دور (بهجت الأباصيرى) بسبب عملية جراحية جرت للفنان (عادل إمام)، وفي الإعادة التي تمت في الثمانينات لعب الفنان (محمود الجندي) دور الفنان أحمد زكى، و في جميع الحالات لم يتأثر نجاح المسرحية.

هذا النجاح الضخم له أسبابه الخفية، نستطيع رصدها بنظرة فاحصة للظرف التاريخى الذى ظهرت فيه (مدرسة المشاغبين)، ففي عام 1967 وبعد النكسة فقد جيل الشباب الثقة في الأجيال السابقة، لذا تمرد على صورة (الأب المسيطر)، وتمثل هذا التمرد في مظاهرات الطلاب ضد الأحكام في قضية الطيران.

وفي العام التالى ضج العالم بهتافات ثورة الشباب ليس فى مصر فحسب بل فى العالم أجمع، والتي بدأت في باريس رافضة للرأسمالية وأيضا للأحزاب الشيوعية التي تنادى بسيطرة الطبقة العمالية، وانتشرت أفكار تختلف عن الأيدولوجيات المعروفة.

عندما صرخ كل الأبناء: (هييييييه.. أبويا اتحرق) في (مدرسة المشاغبين)!
في عام 1970 غاب الزعيم جمال عبد الناصر عن المشهد واختفت صورة الأب المسيطر

اختفت صورة الأب المسيطر

فلم يعد الاستقطاب بين يمين ويسار لأن الأجيال الجديدة رفضت كل ما هو قديم لتغرق في موجات (الهيبيز) كظاهرة احتجاج وتمرد على قيادة الكبار ومظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك، والدعوة لعالم تسوده الحرية والمساواة والحب والسلام وميزوا أنفسهم بإطالة الشعر ولبس الملابس المهلهلة والفضفاضة والتجول والتنقل بحرية في مختلف الأنحاء وهم  حفاة.

وفي عام 1970 غاب الزعيم جمال عبد الناصر عن المشهد واختفت صورة الأب المسيطر، وسخر المصريون من (أنور السادات )، ذلك الظل الهزيل القادم من خلف القامة الضخمة، وساعد على السخرية أنه بدأ الحكم فى مناخ معاد له، و طالته النكات قبل أن يبدأ.

ولكنه بعد شهور قليلة نجح فى التخلص من كل المناوئين (ثورة مايو) محاولا تسويق صورة مختلفة له عن صورة الزعيم، صورة رجل الديمقراطية الذى يحفظ للناس كرامتهم ويجعلهم آمنين على بيوتهم وأموالهم و أسرارهم و أرواحهم، وساعدته جوقة اتخذت من سب الزعيم الراحل أسلوبا لرفع قيمة الحاكم الجديد.

ولكن سرعان ما انفجر الوضع وكاد أن يخرج عن السيطرة بسبب عدم تحقيقه لوعده المتهور بحسم المعركة فى نفس العام ( 1971 ) متعللا بحجج لا تنطلى على الأطفال.

ولذا توالت مظاهرات الطلاب في يناير من أعوام 71 و 72 و 73 لتعلن تمرد ذلك الجيل على كل الآباء محاولا كسر كل العادات و التقاليد و الاعراف الاجتماعية.

 وجاءت مسرحية (مدرسة المشاغبين) متوافقة مع اللحظة فنجحت نجاحا ساحقا ونقلت ممثليها إلى مصاف النجوم، نجوم تلك المرحلة التى يصرخ فيها كل الأبناء: (هييييه.. أبويا اتحرق).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.