
بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
أخيرا.. هذا الصباح من المفروض أن أغادر المكان ..
ابنى (شادي) في بهجة يجري في كل أركان المستشفي يوزع النقود علي كل من يقابله من رجال الأمن البسطاء والعاملات شكرا لله .. لم يتركني أخوه (محمود) أيضا للحظه.. و لا زوجتيهما.. حتى (محمد حمدي السلاموني) زوج ابنتى (رضوى) فهو يعتبرني والده من محبته لي سمي ابنه إبراهيم..
كانت (رضوى) تتحاشى دائما النظر إلى وجهي الشاحب.. في معظم الأوقات تظل خارج الغرفة تبتهل و تدعو لى بالنجاة.. سمعت نصيحة زوجتي وأولادي ألا أتعجل الخروج قبل الشفاء التام..
كنت دائما مشغولا بمراقبه الرجل الذي يموت على السرير المجاور.. في كل دقيقه يشرخ الصمت مناديا في لهفة: (يا أحمد).. ثم يدخل في غيبوبة شديدة.. استمر الجهاز الخاص به يحصى الأنفاس و النبضات المتبقية في رصيده.. بينما تراقبني (رضوى).
يذكرنى صراخ الجهاز المرعب بصوت القطار الذي كتب عنه صديق العمر القاص (صلاح عبد السيد) رحمة الله عليه في قصة قصيرة عنوانها القطار.. حيث كان البطل يسمع القطار يصرخ بصفارته: هند تخونك..هند تخونك..
أخبرني الطبيب أنهم لن يحضروا لي ملابسي قبل أن يتحقق لى الشفاء الكامل.. بعد ساعة هجمت على عاملة من المستشفي تحاول خلع ملابسي.. تعجبت متسائلا عن ما تفعل.. قالت لي لابد أن تستحم.. حاولت التملص معترضا الاستحمام في الحمام وليس هنا.. مدت يدها العفية خالعة عنى كل ملابسي..
أصبحت عاريا أمام الداخل والخارج.. تهاوى كيانى الإنسانى.. أصبحت مجردا من ملابسى و كرامتى.. انهالت على جسمي تنظيفا بالصابون.. ألبستني بامبرز يعلوه الجلباب الأزرق المفتوح..
فجأة وبلا مقدمات كنفحة ربيعية وسط قيظ صيف سخيف دخلت ممرضة تخبرني أن حقيبة ملابسى موجودة الآن مع (شادي ومحمود) إلى جانب (رضوى) خارج العنبر.. كدت أطير من فوق السرير فرحا..

على كرسي متحرك
تخلصت بسرعة من كابوس الأجهزة و أنا أسارع بارتداء ملابسي بصعوبة.. كانت فرحة العمر بخروجي سليما من هذا المكان.. كنت مبتهجا رغم خروجى على كرسي متحرك حيث زوج (رضوي) ينتظرني في الخارج بسيارته.. ووصلت المنزل أخيرا.. قام الجميع بتسنيدي حتى وصلت الأسانسير..
عانقتني زوجتي.. أسررت لها بحدث رهيب لم أجرؤ على مصارحة أحد به.. فقبل أن أتماثل للشفاء وكنت في الحجرة وبها عشرات الأشخاص من نزلاء المستشفى.. شعرت بمن يطبطب علي ظهري.. ظننت أنها حكيمه أو أحد الأطباء..لم ألتفت. تكررت الطبطبة الحانية..
التفت.. لم أجد أحد.. قالت لي إنها معجزه إلهية.. قلت لها قد تكون أوهام.. قالت لي إنه رسول الله صلي الله عليه و سلم الذي كتبت عنه وفي فيض حبه 16 مجلدا.. واليوم صدر في حبه مجلدا جديد..فرحت جدا.. وبكيت بشدة.. قالت لي زوجتي هدية الله لي.. كنت تشكو من أن رسول الله صلي الله عليه لم يزرك في منامك ولا مرة.. لقد زارك الآن في اليقظة.
كان التليفون لا يكف عن الرنين.. آلاف الرسائل تزدحم بها ذاكرة الموبايل.. جلست أردد رباعية طافت برأسى لأكتبها..

انزلقت من خلايا الذاكرة
أسلمت رأسى لمسند مقعدى المفضل وقد بدأت تعود إليه الوجوه التي كانت قد انزلقت من خلايا الذاكرة واحدا وراء الآخر:
فجأه / لقيتنى بين أيادى الله/ و مش قادر أقول البسملة
فجأه لقيت طيرى اللى كان عاش غنا مشلول على شباك خلا
الصدمة كانت جوه قاع الجمجمة/ بتهدد العصفور..بنتف الريش
وهجرة كل أحبابه.. في رحله طويلة جدا للسما
غمضت واتألمت.. واستسلمت للصمت اللى ضاغط ع العروق
المهر مش قادر يفوق/ و الدنيا حواليه شروق مالهوش حدود
وكلبش.. بعد كلبش.. في سرير الوجع.. والتوهة.. بيدوسوا الصهيل
قنديل في آخر ومضة.. لسه بيترعش
والوش كان في المخ.. مش جوه الودان/ وأنا في الميدان حافى وعريان الفخاد
إيه اللى خلى الحزن جوه الحضن نايم ع السرير/ المليان جثث.. يعلن بأن الليلة آخر رفرفة
والعين تكون مفتوحه ع الخراطيم وهى مغمضة
جسد الورود العاري.. كان فوق العرق يشبه ندى
واللى ابتدى يصرخ و يرعش صمتى.. جثة على السرير الفاضي.. ويا دقيقه من سورة ياسين
بعدين يعود الضحك للى مازالوا شايلين الكفن
اللى غرق في المتعة.. يشبه كل اسم بيندفن
وروايح البرقوق لسه مخلوطة بعفن
وأنا ع الجدار مصلوب كبقعة دم هاربة م العروق
وأنا فوق تابوت المرتبه المغلية.. مش قادر أنام .. ولا حتى قادر من الكابوس أبدأ أفوق
أفواج ورا أفواج بتنظر للى كان
ومض النيون.. بيراقب الجسد المسجى على الحصيره اللى البلل.. غرقها من كل اتجاه
سرقها م الروح اللى كانت لسه عايزه تعيش دقيقه بدون خراطيم الوجع
والانتظار للخيل اللى جايه لاجل ماتشيل القتيل اللى مازال جواه دما
ومافيش خلاص غير السما..
بس اللسان اللى نشف م النومة مش قادر يقول
صوت اللى بيحبوك بيخرج نهنة/ والجمجمة.. متدلدلة
الروح في قلب اللى ابتدى يهمس..بتشبه للصلا
ومازالت الخراطيم.. في كل مكان بتشبه سلسلة
ومازال كابوس الموت بيرسم للغريب اللى ابتدى ييأس من العوده لبيت الأهل .. سجاده صلا
أشباح في كل مكان بتتهجى النهايه للرحيل المنتظر
صبح النظر جواه حديد.. وبقايا من حفنة ورق مع ذكريات
كان زى موج البحر.. مش قادر على صوت السكات
ولا فات عليه.. غير اليمام البنى.. يقرى قصايده.. بس الريش دبل
كان في صراخ قلمه جبل/ بس الحجاره الخضره باشت م التعب
والبطانية البنى.. لونها صبح لهب
ومازال جيران العزوه لسه مغيبين/ ومحنطين بعض البشر
الجسم في الآله انحشر/ لحظة ما مات النور في أوضة مضلمة
وقعت جميع الأوسمة من لفته.. ساعة خروجه فوق كراسى ع الحصى متحركة
ساعة الدخول لملاك.. ورعشه في دخول مخاليق عجية مشركة
و(الطاقه) يوم عن يوم بتصغر.. لاجل ما يهل الضباب.. ع العنبر المشنوق بلمضة ضيقة
(الساعه كام في ايديك ؟) .. دراعى بربقة
والشقشقة.. أشباح هزيلة
والوهج.. بيزيد لمدة لحظة قبل الانتهاء
وتجيب منين الكبرياء.. وانت مازلت في قلب عنبر فاضي
عارى.. شلحوك م الجلد.. مش شايفين ملامحك و انت فوق .. فرشة غراب البين حزين
ومافيش ولا شباك ينادى عليك.. لأن الكل سابح جوه غيبوبة غباء
تضمن منين انك خلاص هاتموت.. في صمت ترابي.. يشبه صمت كل الأولياء
خايفين على ضهرك لا يسخن.. تبتدى زمن الرضوخ والانحناء
ومازلت بتعاني.. ولكن ريحك.. انك بعين مقفولة شفت معاك جميع الأنبياء
كان السرير مطلوق/ ما بين كل العنابر.. والممرات الحزينة
والوجوه الداخلة في كل اتجاه مستغربة/ ومنقبة..
طايرة بجثة.. ومرتبة ملزوقة في الجسد اللى شاخ م الصدمة.. واستسلم بنومه على القزاز
وعزاز بيترجوا الرزاز يوصل.. يبل الريق و يرجع باللى راح
نظرة عيون.. قمر الليالى جراح و نار دمعة شجن
المرمى فوق أسفلت صندوق العجل.. محتاج وطن
يقبل على حق اللجوء لحماه عشان يرتاح معاه
ضل الاله.. باين في كل مكان حياة
والجثه نظرتها صلاة
والآه مازالت رعشه في خشب التابوت اللى ابتدى يجرى و فيه مجاديب وراه
وانتى اللى شافوا غطاه في نن عنيكى والخوف اللى دمر في السدود
وركوع طويل وسجود على تل الحصا.