رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
بسام كوسا.. عملاق الأداء الذي لايضاهى
(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
محمود نصر.. موهبة آسرة بقدراتها فائقة الجودة
(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
محمد حبوشة

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة

صحيح أن مسلسل (البطل) قدم جرعة مكثفة من الكآبة والقهر، في قرية يصرخ فقرها، وكأنه يستجدي الخلاص، لكن الأداء المبهر لكل من العملاق الكبير (بسام كوسا)، والموهوب جدا (محمود نصر) وباقي فريق العمل كان الأبرز طوال الحلقات الثلاثين، رغم بطء الأحداث والملل الذي انتاب مسلسل غلب عليه الميلودراما الإنسانية المكثفة بشكل مؤلم.

منذ اللحظات الأولى لعرض مسلسل (البطل)، يدرك المشاهد أنه أمام عمل مختلف، لا يكتفي بسرد الحكايات، بل يغوص في عمق المعاناة، يلتقط نبض الألم والرجاء في آن واحد.

ليس مجرد عملى يمر عابرا، بل تجربة وجدانية تمسُ الروح التي تعبت كثيرا من قتامة الأحداث، لكنها جعلت من الشاشة مرآة تنعكس عليها أوجاع السوريين، بجراحهم المفتوحة، وتفاصيلهم التي تنبض بالوجع، ومع ذلك، يبقى هناك بصيص أمل يرفض أن ينطفئ وسط العتمة.

لم يرصد مسلسل (البطل) أحداث حرب الجماعات الإرهابية بالصورة المعتادة لهكذا مسلسلات تعالج مايسمى (دراما الأزمة)، لكن مع تصاعد التوتر، استطاع رصد اللحظات الأليمة، حيث يلجأ إليها سكان قرية أخرى، هربا من عمليات عسكرية غامضة، لا يعرف منفذوها أو دوافعها، بل تحضر فقط بشكل قصف مدفعي يستهدف القرية الجبلية المجاورة.

ورغم أن الطبيعة الخلابة التي تتمتع بها البيئة الريفية السورية، إلا أن المخرج لجأ إلى الدراما السوداء  فبدا كل شيء في القرية كئيبا وقاتما، يغلفه صقيع البؤس والحرمان، وعلى مايبدو لي هو منهج اتبعه  المخرج (الليث حجو) في السنوات الأخيرة ليقدم لنا مسلسلات سوداوية قاتمة، تقوم على الألوان الباهتة كمدخل بصري للحديث عن (الوجع السوري).

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
كاميرا (الليث حجو) في مسلسل (البطل) ربما وقعت في براثن النمطية التي اعتادتها (دراما الأزمة)

كاميرا (الليث حجو)

ملاحظة أولية: كاميرا (الليث حجو) في مسلسل (البطل) ربما وقعت في براثن النمطية التي اعتادتها (دراما الأزمة) في تركيزه على القرية التي تنعدم فيها الخدمات الأساسية من كهرباء ووقود، وتتحول الحياة إلى صراع يومي ضد العزلة والقسوة، ولا يحدد العمل، المقتبس عن مسرحية (زيارة الملكة) للراحل العظيم (ممدوح عدوان)، أي إطار زمني واضح للأحداث.

لكنه قدم في مسلسل (البطل) أسلوبا جديدا في روايته من خلال العدسة القريبة والكاميرا المحمولة في مواقع حقيقية للتوثيق ولاستفزاز المشاهِد حتى يستقرئ لغة الصورة ودلالتها الموحية نحو الواقع الأليم.

شيئا من هذا قد تجسد عبر أحداث (البطل) من خلال شخصيات يفتحون بيوتهم ومدرستهم لمن لجأ إليهم، في مشهد يبدو بعيدا من القسوة المحيطة، وكأنه مقاومة أخيرة للإنسانية ضد الانهيار، ونجحت الكاميرا في تجوالها بين أركان القرية، ترصد حياة سكانها اليومية، كما يبدو ذلك واضحا من خلال شخصية (فرج/ محمود نصر) ميكانيكي يصلح سيارة متهالكة، مزارع يقطف البرتقال بصبر، وغاسلة الموتى ( جينا عيد)، وهى تتهيأ لاستقبال ضحايا الجحيم المحيط.

وفي ظل غياب شبه كامل لمؤسسات الدولة – سوى شرطي يتعامل بتعسف شديد – يعتمد السكان على بعضهم البعض للبقاء، كل فرد يحمل ثقلا من الهموم الأحزان جراء فقدان الموتى، أو اغتراب البعض عن القرية هربا من الجحيم، ينعكس ذلك في في خطواته البعض البطيئة وانحناءة الظهره لغالبية سكان القرية المنكوبة بفعل وقوعها بين سندان الحرب الظالمة وإهمال الحكومة.

يبدو لي مسلسل (البطل) لا ينقل مجرد قصة، بل شهادة بصرية على واقع يئن تحت وطأة الفقدان والخذلان، وهوم مايبدو واضحا كما رصدته الكاميرا بدقة شديدة التعبير عن القسوة والألم في شكل المنازل الضيقة إلى حد خانق، بالكاد تتسع غرفها لشخص واحد.

كذلك نجحت الكاميرا في رصد ملامح الجدران العارية من أي نوع من الكساء، مايعمق الإحساس بالفقر المدقع، بل تخلق جواً خانقاً من الكآبة، يزيده قسوة الشعور بالبرد في ظل انقطاع الكهرباء وغياب وسائل التدفئة، أما الشخصيات، فتتأرجح بين طوباوية مثالية مبالغ فيها إلى حد يفقدها المصداقية، وبين شر مطلق يجعل الحوارات منفرة إلى درجة يصعب تقبلها.

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
يقترب (البطل) أكثر من كونه فيلما وثائقيا دراميا، يسجل تفاصيل المعاناة اليومية للسوريين

المعاناة اليومية للسوريين

على مستوى الإخراج، يقترب (البطل) أكثر من كونه فيلما وثائقيا دراميا، يسجل تفاصيل المعاناة اليومية للسوريين الذين ظلوا في مناطق سيطرة النظام، المشاهد الطويلة، وحركة الكاميرا التي تلاحق الممثلين من الخلف أثناء تنقلهم داخل البيوت والشوارع الضيقة، تجعل التجربة أقرب إلى مشاهدة فيلم وثائقي قاتم، أكثر منها دراما تلفزيونية، ويشعر المشاهد تدريجياً بالبرد والحزن.

الفنان القدير (بسام كوسا) لعب ببراعة مطلقة دور (معلم القرية)، شخصية نزيهة ومخلصة، تجسد نموذجا مثاليا لرجل متمسك بالقانون والمبادئ، ولا يتوانى عن مساعدة الآخرين، وعلى الرغم ما يقع عليه من ظلم وحادث مؤلم ألزمه التقاعد جراء أنه ضحي بنفسه لإنقاذ طفل عالق على سطح المدرسة بعد نشوب حريق بسبب سوء التمديدات الكهربائية وتسرب مياه الأمطار إلى الأسلاك.

هذه اللحظة المفصلية، التي كان يفترض أن تكون مشهدا دراميا مؤثرا، تتحول إلى مشهد متناقض بين التراجيديا والكوميديا غير المقصودة، فبينما يبذل (المعلم) جهده لإنقاذ الطفل، تقف بقية الشخصيات بلا حراك، وكأنها دمى متجمدة، تراقب بصمت من دون محاولة تقديم أي مساعدة.

نجح (الليث حجو) في التعبير الحي بالكاميرا، ما جعل المفارقة أن الحدث الدرامي نفسه لا يبدو مصطنعا وغير منطقي، فالسطح كما يظهر في المشهد، واسع ومكشوف، والجدران إسمنتية، ولكن هذا يجعل من المستبعد أن تصل ألسنة اللهب إلى الطفل لو بقي في الزاوية البعيدة.

ورغم ذلك، يجبر سيناريو (البطل) المعلم على القفز من سطح المدرسة، في تضحية مبالغ فيها وغير مبررة درامياً، وكأنها مجرد وسيلة لإضافة مأساة أخرى إلى العمل، من دون أن تكون منطقية في سياق الحدث.

هذا التوجه يضيف مزيدا من الكآبة إلى جو المسلسل السوداوي، الذي يبدو أنه يحاول تجسيد المجتمع السوري في سنوات الحرب الأخيرة، قبل سقوط الأسد، لكنه، بدلاً من تقديم قراءة عميقة للواقع، يغرق في سوداوية متكررة ومفتعلة، تخلو من اللحظات الإنسانية التي كان يمكن أن تضفي بريقاً وواقعية على هذا العالم المتهالك.

وكالعادة في مسلسل (البطل)، لجأ إلى أسلوبه المعتاد لجعل الدولة عاجزة تماما عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات، فيما يواجه النازحون الذين لجأوا إلى القرية مصيرا أقسى بعد احتراق المدرسة التي كانت تؤويهم، من دون أن يجدوا من يمد لهم يد العون، ويرسخ المشهد صورة العزلة واليأس المطلق، حيث لا جهة قادرة على التدخل لإنقاذ الوضع المأساوي.

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
تحسب لبسام كوسا بشخصية (الأستاذ يوسف) الاستثنائية

رسم صورة مكثفة للمشاكل

ربما نجح المسلسل – على أحداثه الكئيبة – في رسم صورة مكثفة للمشاكل الاجتماعية والخدمية التي يعانيها السوريون بشكل عام، لكنه يفعل ذلك ضمن الإطار المحدود لقرية صغيرة، لكنه تجاهل إلى حد كبير الحرب السورية نفسها، رغم أن القصف المدفعي المستمر يستهدف القرية المجاورة، وهو لم تقترب منه الكاميرا لتصوير حجم الدمار.

نعم مسلسل (البطل) لامس حكايات من قلب الأزمة، وحقق تصدرا لافتا بين الأعمال الأخرى في رمضان 2025، لأن حكايته من قادمة لؤم الواقع وشخوصه أحياء في بعضٍ منا؛ نلمحهم في ذاكرةٍ ما، نشاهد ويلات الحرب وهى تعمق الفجوة بين الموت والحياة، بحيث جعلنا نتابع مسار الأحداث في تصاعدها نحو إعلان عبثيتها، العمل يمسك تفاصيل العيش البائس ويرويها بما يحلو انتظاره في المستقبل القريب.

ومع ذلك فقد نجح مسلسل (البطل) في إظهار فكرة: أن هذه سوريا تحت الوجع، تحت النار، في عروق الأوتار المقطوعة، نسمع القصف وهو يؤرق فاقدي الأمان في الليالي الطويلة، ونتعايش مع أهواله على شكل عوز بشري، وتهجير، واحتكار، ورفع أسعا، وانسداد الأفق إلى حد ما.

بطولة مسلسل (البطل) تحسب لبسام كوسا بشخصية (الأستاذ يوسف) الاستثنائية، في أداء مبهر برع من خلاله في صورة إفساح المجال للخير فيتقدم ويبرز ثم يسطع ويلمع وسط الشرور كلّها، وتبدو تركيبة الدور ترفض صبغ جميع البشر بلون واحد، وهو غالباً السواد العميم.

فمن المونولوج الداخلي  لـ (يوسف) يتجلى أداءه في إثبات حسن النية واقتران القول بالفعل والاستعداد للعطاء رغم الجيوب الفارغة، يخرج (بسام كوسا) بتجسيد احترافي لشخصيته من عمق الخراب ليقول لنا: (إن الدنيا لا تزال بخير)، وإذا كان البغض هو محرك الإنسان، ومشعل حروبه، وراسم أقداره البائسة، فإن الحب يتيح تسلّل الضوء فيجعل الحياة تحتمل.

يبدو صراع العائلة من أجل النجاة وبقايا الأحلام، الجميع في وضعية تخبط رغم التماسك الظاهري، إلا أن الحكاية تبدو مثل مراكب عائمة على موج غاضب: وهو ما ظهر في أداء (مريم/ نور علي) بأداء لافت بإسكاتها دموعها وتيهها الكبير، هى ابنة (يوسف) والزوجة المستقبلية لـ (مروان/ خالد شباط)، واقعة بين الرجلين، لا تقوى على تفضيل أحدهما على الآخر.

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
نجحت جيانا عيد في رسم صورة مكثفة للمشاكل الاجتماعية والخدمية

إرسال السقوف الآمنة

إنه ببساطة واضحة: تجسد ذلك الهم وهو يسكن الأبناء على مصائر الآباء المتروكين في عرائهم، والأرض عراء حين تشتت من عليها، والوطن عراء بإرساله السقوف الآمنة إلى حتفها المحتوم.

ضياع (مريم) قدر جماعي، فتلتهم الحيرة رأس ضحيتها وتصعب القرارات حد التطرف في اتخاذ بعضها، فنجد الخطيبين بوضعية حميمية لا يأبهان بالقصف خارج الغرفة، وهو ما يجعل الأمور أكثر بوصول الأحداث إلى خط النهاية بقليل.

وقد لاحظت في ثنايا أحداث مسلسل (البطل) التألق الكبير لشخصية (فرج/ محمود نصر)، بحيث جسد بدقة شديدة الشخصية المولعة بقدرها، ربما يبدو هذا الدور للوهلة الأولى غير مفهوم تماما، بل إنه يحتمل أكثر من تفسير، لكن تجليات (محمود نصر) في التقمص والتماهي مع الشخصية جعلنا لا ندري أهو خير أو شر قد تأجل إلى حين.

فعلا نجح (محمود نصر) في العزف على أوتار ظروفه الواضحة، وعلى الرغم من أنه يرث الندوب، كان لديه إصرار قوى في أن يكمل طريقه محاولا تخطيها، لكنها لا ترحمه بل ألقت به في كثير والأحيان في شرك الخطيئة، خاصة أن المجتمع المحيط لم يرحم مهنة والدته (تغسيل الموتى) وماضيها الشاق.

على مستوى لغة الجسد المعبرة، ظهرت قدرات (محمود نصر) في امتلاكه أدوات خاصة في الأداء الاحتراف، وهو مابدا على وجه الغاضب دائما بعروقه النافرة على جبهته العريضة، لتعكس نقمته على أوضاعه الإنسانية المزرية، وقد ساهمت ملابسه الرثة وملامحه البائسة، فضلا عن الإضاءة القاتمة في إظهار موهبته الحقيقية، وظني أنه بذل مجهودا خرافيا في إظهار (فرج) على هذه الشاكلة.

والحقيقة أن (جيانا عيد) في دورها هذا بدت سنوات الخبرة التي صقلتها،  فقد برعت في إظهار أنه أحيانا الأبناء مجرد ضحايا، بل إنها تماهت في سمو في خطواتها المحسوبة، تلك التي في جاءت في تجسيد مظاهر الويل من قسوة الآخرين واللعنات المحمولة على ظهور مكسورة تعجز معها إظهار الوجه الحقيقي للإنسان الذي يحمل ماضية على كتفه طوال الوقت.

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !

(البطل).. مسلسل يثبت جدارة الدراما الأصيلة الحاضرة لدى صناعها السوريين !
وفي النهاية قدم مسلسل (البطل) وجبة من ألم الواقع تحفر عميقا في ذكريات زمن حاضر

وجبة من ألم الواقع

وفي النهاية قدم مسلسل (البطل) وجبة من ألم الواقع تحفر عميقا في ذكريات زمن حاضر، وكأنه الماضي البعيد، وكأنه المستقبل الذي يرزح أمامنا، فاتحا ثغره مندهشا من قدرته على التنكيل بنا ونكش عوالمنا المخفية عن أعين الآخرين.

أثبت مسلسل (البطل) – على قدر أجوائه الكئيبة – أن زمن الدراما الأصيلة بنصوصها ومشكلاتها ولغتها وبيئتها المحلية حاضرة في وجدان صناع الدراما السورية من كتاب ومخرجي وممثلي الدراما السورية الحقيقية، رغم هيمنة شاملة للدراما المعربة، وديكوراتها الفخمة، وقصورها المسقوفة تحت قبة سماوية لا هوية لها، وقضاياها التي تعلو فوق واقع الناس.

ويحسب لهؤلاء المبدعين: (الليث حجو ورامي كوسا ولواء يازجي)، أنهم استطاعوا تطوير فكرة مسرحية الكاتب الراحل ممدوح عدوان (زيارة الملكة)، وهم في ذلك قد بددوا مظاهر النواح على زمن الفن الجميل، وأمسكونا من أيدينا، ووضعونا في مواجهة شاشة تنز بمعاناتنا، عبر أداء جيد من كل المشاركين فيه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.