
بقلم المستشار: محمود عطية *
لا شيء يعبر عن انحطاط الذوق العام أكثر من مهزلة (الصحافة) المسماة تصوير الجنازات ولا شيء يفضح قلة الأدب المبطنة بثوب الرقي والاحترام أكثر من تجمع المشخصاتية حول الكاميرات في لحظة وداع مهيبة يفترض أن تسودها مشاعر الحزن والسكينة.
فإذا بنا أمام سوق للنحيب الاستعراضي ومزاد رخيص للعبرات المصطنعة وتستمر المأساة حين تجد بعض الكيانات التي تمثل (الصحافة)، والتي يفترض بها الدفاع عن القيم المهنية مثل نقابة الصحفيين تحاول أن تفرض هذه السفالة كأمر واقع
في الزمن الذي صار فيه الموت فرصة عمل ذهبية لبعض المشخصاتية الموهوبين في فن اللقطة تبدو الجنازات كمهرجانات للعرض المجاني، يجتمع فيها سماسرة الظهور مع عدسات الارتزاق لا لشيء إلا من أجل تثبيت أنفسهم في ذاكرة صناع السوق القذر.
نعم لم يعد المشهد مقصورًا على الحزن ولا مشاعر الفقد بل صار مناسبة اجتماعية راقية لالتقاط الصور وتوزيع الابتسامات المبللة بالدموع الصناعية على منصات التواصل من جانب (الصحافة) وشاشات التفاهة.
فيهرول المشخصاتية فرادى وزرافات صوب جنازات المشاهير والأغنياء بينما يطوي النسيان جنازات الفقراء والمغمورين وكأن الموت درجات، وكأن العزاء لا يستحق العناء إلا إذا كان فقيدًا ثريًا أو صاحب صيت أو يحمل معه وعودًا خفية بفرصة عمل جديدة.
ولا يفوت المشخصاتي الفصيح أن يدلي بتصريح سخيف عن الراحل يفيض بالمحبة والمودة وكأنه كان ينام كل ليلة على كتفه بينما هو في الحقيقة لم يكن ليلتفت إليه لو قابله حيًا أمامه وتزداد قذارة المشهد.
حين نعلم أن بعض هؤلاء الفرحين بالحزن لا يحضرون العزاء حبًا أو وفاءً بل حبًا في الكاميرا، وخوفًا من أن يفوتهم المولد فمن يدري قد يصادف في الجنازة منتجًا تائها أو مخرجًا متعثرًا يتذكر ملامحه ويهبه دورًا في مسلسل أو لقطة في إعلان أو مساحة في فيلم لا قيمة له.

جنازة (عمر الشريف)
وهذه ليست مبالغة بل واقع موثق حين زحفوا بالأحذية اللامعة إلى عزاء ممثل شبه مشهور، ولكن تصادف أن لديه شركة إنتاج بينما قاطعوا بجلالة قدرهم جنازة (عمر الشريف) وكأن الأسطورة الذي أضاء اسم مصر في العالم أقل أهمية من جني الأرباح والانتهازية الصغيرة.
وإذا كان (عمر الشريف) قد رحل في صمت يليق بالكبار فإن الجنازات التي يتزاحمون فيها اليوم تعج بالزعيق والنحيب المصطنع لأن الغرض واضح والأهداف لا تحتاج تفسيرًا فكل مشخصاتي يحلم أن تلتقطه الكاميرا وهو يمسح دمعة أو يضع وردة أو ينظر إلى السماء.
كأنما يودع الإنسانية جمعاء في مشهد استعراضي لا يخجل منه ولا يشعر بقذارته ولا يستغرب أحد إذا لاحظ أن التصوير لا يتم إلا في جنازات الأثرياء، ومن يملكون النفوذ الإعلامي أو الفني أما جنازات الفقراء فهي تمر مرور الكرام لا دمعة مسروقة ولا شهقة مدفوعة الأجر ولا تصريح مكرر.
ولأنهم مشخصاتية محترفون فإنهم يعرفون جيدًا قواعد اللعبة لا يذهبون إلا حيث تكثر الكاميرات ولا يبكون إلا أمام عدسات (الصحافة)، ولا يذرفون الدموع إلا إذا كانت هناك ميكروفونات تلتقط أنينهم البارد ولا يتحدثون عن الحب القديم والصداقة الراسخة إلا عندما يضمنون أن المخرج الصحفي التافه يلمع جملهم فوق العناوين.
فيا لها من مهنة مزرية، ويا لهم من مشخصاتية لا يعرفون إلا الاصطياد وسط الجنازات يبحثون عن عمل لا عن مشاعر وعن فرص لا عن وفاء وعن أدوار لا عن وداع ولا تتعجب إذا رأيت مشخصاتيا يبتسم خلسة أثناء البكاء أو يلتفت فجأة يتحسس زاوية التصوير.
وكأن اللقطة أهم من الموت نفسه بل هى كذلك بالفعل في عرف هذا الوسط الذي تخلى عن آخر ذرة احترام، فلم يعد يوقر لا حيًا ولا ميتًا والأدهى أن كل هذا القبح يتم برعاية ضمنية من بعض المؤسسات الصحفية التي لم تجد حرجًا في تسويق هذه الوقاحة على أنها عمل صحفي مشروع.
فتبارك تصوير النعوش ونقل لحظات الدفن وكأن الإنسان لم يعد إنسانًا بعد موته بل مادة خام لنشرات الأخبار وبرامج التسلية الرخيصة والمؤسف أن الجمهور المسكين صار شريكًا دون أن يدري يشاهد ويعلق وينشر صور الموتى.

دفتر النفاق المفتوح
وكأن الموت نكتة وكأن الحزن مسرحية كوميدية سيئة لا تعرف الختام ولا ينتهي الموكب الساقط عند هذا الحد، بل يمتد إلى حفلات التعزية حيث تجد نفس الوجوه الباكية، تصافح وتبتسم وتتلون كالحرباء فمن أين يأتي هذا الكم الهائل من الانتهازية إلا من وسط مزري لا يحترم أحدًا إلا بمقدار ما يمكن أن يجني منه مالًا أو شهرة.
أو لقطة إضافية في دفتر النفاق المفتوح، وهكذا تموت الكرامة قبل أن يموت الإنسان وتدفن المروءة، قبل أن توضع الجثة في قبرها الحقيقي ويبقى المشخصاتية راكضين خلف كاميرات (الصحافة) خلف الفرص خلف لا شيء، في حقيقة الأمر سوى خيبتهم العظمى التي ستلاحقهم حتى القبر!
وألخص المقال في هذه الابيات الصغيرة:
مات الكريمُ فشيّعوهُ غفلةً
ومشى الخسيسُ فشيّعوهُ موكبَا
بكوا عليهِ أمامَ عدساتِ الهوى
لو غابَ مصورٌ تركوا التخشُّبا
خانوا الوفاءَ وباعوا دمعَ أعينهم
للفلاشِ إن لمعَ ارتدوا التذلُّبا
لا يعرفونَ الحزنَ إلا سلعةً
ولا يرونَ الموتَ إلا مكسبَا
يا ويلهم من سكرةِ التصويرِ إذ
تُكشفُ الوجوهُ وتُلعنُ الكذِبا.
* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع