رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. ثروت الخرباوي يكتب: يا أهل (جودر) المصري: الكمال لله وحده

د. ثروت الخرباوي يكتب: يا أهل (جودر) المصري: الكمال لله وحده
(أنور عبد المغيث) الكاتب لمسلسل (جودر)

بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي

سأبدا هذا المقال بكلمة: (ياللهول)، وليتك تسمعها بصوت (فنان القرن) يوسف بك وهبي، لأنه في الحقيقة ياللهول من يكتب في الفن، ويا لا الهول الناقد الذي يختلف مع المخرج أو المؤلف ويكتب نقدا موضوعيا، ولكن لماذا أبدأ بمقدمة؟!.. ويح قلمي وغوايته، فالمقالات التي عن الفن ينبغي أن تكون خفيفة شيقة خاصة عن مسلسل (جودر)، ويجب على كاتبها أن يبتعد عن المقدمات الطويلة ثقيلة الظل، فما بالك لو كانت المقدمة عبارة عن تبرير لموضوع مقال نقدي سابق؟!

ففي بلادنا أصبحنا نخلط بين الشخص ومشروعه الفني أو الأدبي أو العلمي أو السياسي، فإذا انتقدنا عملا فنيا ما فكأننا انتقدنا صاحب العمل بنفسه، كما أن النقد نفسه يتم تأويله على أنه سب وقذف، مع أن هذا غير ذاك.

ولكن هذا هو واقعنا، فجهل معظمنا من حيث التطبيق أهمية النقد وإبداء الرأي، وضاقت صدورنا واسترابت أنفسنا من كل صاحب رأي يختلف مع رأينا، ونظرنا إلى الناقد ولم ننظر إلى موضوع النقد فوقعنا في دائرة (الشخصنة) تلك الدائرة التي يحركها الحب والبغض، ويحجب الرؤية فيها مشاعر الخلاف والاختلاف.

يا للعجب من قلمي الذي يستطرد كثيرا حيث يجب أن لا يكون هناك استطراد، ولكن لكي أقصفه قبل أن يستطرد مرة أخرى أقول إنني أقر وأعترف في بداية المقال أنني أحب الأستاذ الكبير (أنور عبد المغيث) الكاتب لمسلسل (جودر) المصري، وأضعه في مكانة كبيرة، فهو في الحقيقة أديب متميز، برع في كتابة المسرحية وهذا أكسبه قدرة على كتابة الحوار على ألسنة أبطال عمله الفني.

وقد انطلق نقدي لصياغته لقصة (جودر) بن عمر المصري وهى إحدى الحكايات المقتبسة من (ألف ليلة وليلة) من منطقة تحويل الأسطورة إلى عمل درامي، وأدواته الفنية التي استخدمها في هذا المجال، ونهاية الأسطورة التي يتم فيها القضاء على الساحرة الشريرة (شواهي) عندما يستدرجها (جودر) لنطق كلمة إنسان، وقد كتبت رأيي في هذا بما يجعلني أكتفي بما كتبت وأنا على قناعة تامة به.

د. ثروت الخرباوي يكتب: يا أهل (جودر) المصري: الكمال لله وحده
لا يعني أبدا أن مسلسل (جودر) من حيث الكتابة كان عملا فاشلا

لم يكن عملا فاشلا

ولكن هذا لا يعني أبدا أن مسلسل (جودر) من حيث الكتابة كان عملا فاشلا، هذا لم يرد في ذهني على الإطلاق، بل إنني أعتبره من أنجح الأعمال التي تم اقتباسها من حكايات (ألف ليلة وليلة)، فهناك فارق كبير بينها وبين الأعمال السابقة التي كانت تقدم لنا عملا دراميا ساذجا لحكايات ألف ليلة.

تلك الحكايات الطفولية التي شاهدنا فيها (العفريت الأشكيف)، وقصص (فاطيما وكريمة وحليمة)، أو حكاية (جوهرة بنت السمندل) وغيرها.

ولكن مسلسل (جودر) المصري يقف في منطقة أخرى، فأخيرا شاهدنا عملا مقتبسا من (ألف ليلة وليلة) يحمل العديد من عناصر الإجادة من حيث التأليف والإخراج والتمثيل، وقد كانت أبرز جوانب التميز في مسلسل (جودر) بن عمر المصري، وهو العناية الفائقة التي أولاها الكاتب (أنور عبد المغيث) لصياغة الحوارات.

فقد جاءت اللغة المستخدمة في المسلسل فصحى مرنة، ممزوجة بالعامية المصرية، خالية من التكلف، وراقية ومفعمة بالقيم الأخلاقية، هذا الأسلوب في الكتابة عكس حرصًا على تقديم محتوى يحترم عقل ووجدان المشاهد، بعيدا عن تلك اللغة السوقية التي صكت آذاننا وامتلأت بها المسلسلات والأفلام في الفترة الأخيرة.

والتي من كثرة تكرارها ظننت أن مؤلفا واحدا يكتب هذه الأعمال، مثل كلمات (نَوَش)، و(عَوَء)، و(مالكش فيه)، و(ياروح أمك)، و(يابن كذا)، و(السرسجي)، والكارثة التي تكررت بعبارة (ولاد الإ…ية) هذا.

غير وابل من الشتائم البذيئة في معظم مسلسلات رمضان وغير رمضان، ووصلة الرقص البلدي، والإيحاءات الجنسية السخيفة التي لا يخلو منها عمل وكأننا في مسابقة في (قلة الأدب).

ولكن (أنور عبد المغيث) أديب، والأديب لايستخدم تلك المفردات، ولا تلك الإيحاءات، وإنما تميّز في صياغته لحوارات مسلسل (جودر) بإحكام خاص للغة الحوار، حيث عمد إلى استخدام الفصحى البسيطة في بعض الأحيان بأسلوب سهل رصين، ومزجها بالعامية المصرية المحببة للنفس، فحافظ على نغمة تراثية تُناسب طبيعة الحكاية، دون أن يُثقلها بتكلّف لغوي أو مصطلحات غريبة عن السمع المعاصر.

هذه اللغة لم تكن مجرد وسيلة للتواصل بين الشخصيات، بل كانت حاملة لهوية العمل وقيمه، ولعلّ اللافت أن الحوارات لم تُبَنَ على الزخرف اللفظي، حتى عندما كنا ننتقل لشهرزاد وهى تتحاور مع (شهريار)، بل جاءت الحوارات في أغلبها محمّلة بمضامين أخلاقية تُمرَّر بسلاسة، دون افتعالٍ أو خطابيةٍ زائدة.

د. ثروت الخرباوي يكتب: يا أهل (جودر) المصري: الكمال لله وحده
ظهرت في الكلمات مفاهيم عن الصدق والوفاء والأمانة والإيمان بالقدر

أمام سرد مشوق

وقد ظهرت في الكلمات مفاهيم عن الصدق والوفاء والأمانة والإيمان بالقدر، بأسلوب لا يُشعر المتلقي بأنه أمام درس أخلاقي، بل أمام سرد مشوق ينبع من جوهر الشخصيات وصراعاتها، وهو ما يعكس وعي الكاتب بأثر الكلمة في تشكيل الوجدان، وبهذا الشكل حقق الكاتب التوازن بين الجمال اللغوي، والاتساق الدرامي، والرسالة القيمية، دون افتعالٍ أو إسفاف.

ليست اللغة فقط التي تميزت، ولكن الشخصيات المأخوذة من حكاية (جودر) في (ألف ليلة وليلة)، فانتقاء الشخصيات من الحكاية، وإضافة شخصيات، كانت لها رؤية واضحة عند المؤلف، تدور حول تقديم جوهر الشخصية المصرية، سواء وهى تقدم لنا القيم العليا والإصرار والتحدي والصبر، أو حتى عندما يقدم لنا شخصية الأخ ـ أو بالبلطجي ـ التي تسيطر عليها الغيرة والحقد والبلادة والسطحية.

ولنا أن ننظر إلى شخصية (جودر) ذلك الفتى الذي جسَّد الحلم المصري الذي يتوق إلى القضاء على (الشر) سواء كان هذا الشر متمثلا في دولة طاغية محتلة تسفك الدماء بأمر من الشيطان الأكبر.

أو جماعة من جماعات الشر تعمل تحت إمرة الشيطان الأكبر وتحقق مصالح الدول المعتدية قاتلة الأطفال والنساء، هادمة لمعابد الله على الأرض، جودر هو التجسيد الحي للإنسان المصري الحقيقي، يخرج لنا من قلب الأسطورة لذلك نستطيع القول إن (جودر) هو فتي الدراما المصري هذا العام بعيدا عن العك الذي رأيناه في باقي المسلسلات.

 تبرز شخصية (جودر) كأيقونة درامية نُسجت بخيوط متينة من الخيال الشعبي، لكنها تشعّ بسمات الإنسان المصري في أبهى صوره، لم يُقدَّم (جودر) بطلًا خارقًا يولد في عالم من السحر، بل شابًا من عامة الناس، يبدأ من الهامش، ويحمل في قلبه شوقًا للحقيقة، وحنينًا للعدالة، وإيمانًا بالقيم والمُثل، تميّز الكاتب في رسم هذه الشخصية من خلال مزيج بين البساطة والعمق.

فجَوْدَر، رغم بداياته المتواضعة، لم يكن ساذجًا، بل ظلّ يقاوم الظلم بوعي داخلي، ويتدرج في رحلته النفسية بشكل قدري من الفتى البسيط إلى الرجل الحكيم، أما القيم التي حملها جَوْدَر، فهي ليست شعارات تُرفع، بل مواقف رأيناها متجسدة في المواقف الدرامية منها مثلا الصبر عند الظلم، العفو عند المقدرة، والشرف في زمن تتهاوى فيه القيم، والقوة والذكاء في مواجهة الشر.

د. ثروت الخرباوي يكتب: يا أهل (جودر) المصري: الكمال لله وحده
حاول المؤلف في باقي الشخصيات أن يُعطي لكل شخصية ملمحًا يميزها

الحلم المصري القديم

لقد كتب أنور عبد المغيث (جودر) لا كبطل فرد، بل كرمز جمعي يُجسّد الحلم المصري القديم: أن يرتقي الإنسان من تحت الطين ليواجه سادة الذهب، مسلحًا بالحق، والكرامة، والمروءة، وكأنه يكتب عن الشخصية المصرية التي تقبل التحدي أمام أقوى قوة طاغية في العالم، لا تقبل التحدي فقط ولكن تنتصر عند المواجهة.

أما شخصية (الأب عمر المصري) فقد نجح المؤلف في رسمه بشكل يمثل ضمير العائلة المصرية، فهو ذلك الأب التاجر الشريف، الصارم في تربيته، ورغم صرامته إلا أنه مُحبّ لأولاده، لكنه مُرهق من واقعٍ يهدد تماسك أسرته.

وقد جعله المؤلف تجسيدًا لـ (الضمير الحي)، الذي يتألم أشدا ما يكون الألم أمام خيانة أولاده لكنه لا يفقد إيمانه بابنه الصادق (جودر)، وفي ذات الوقت يظل محتفظا بهيبة الأب، دون أن يُحوّل إلى رمز سلطوي أو عجوز ساذج، وهو توازن جيد في الكتابة.

أما الإخوة فقد جاءوا كرمز للغدر الإنساني كما في الموروث الشعبي (يشبهون إخوة يوسف)، لكن المؤلف لم يجعلهم شياطين مطلقين، بل بشرًا دفعتهم الغيرة والطمع إلى الخيانة.

وجاءت شخصية الأخ الأوسط (سليم) الذي قام بدوره ببراعة محببة للنفس الفنان ياسر الطوبجي، لتُظهر ترددًا وتأنيب ضمير، مما كسر النمط الأحادي المعتا .للشخصية الشريرة، وقد أتاح  المؤلف لسليم مساحة التردد هذه ليساعد في تطور شخصية (سالم) صاحب الشر الأعلى والذي أدى دوره شرير الشاشة حاليا الفنان الشرير (وليد فواز)!، خاصة حين بدأوا يشعرون بأن ذنبهم سيلاحقهم.

وقد حاول المؤلف في باقي الشخصيات أن يُعطي لكل شخصية ملمحًا يميزها، حتى في عالمٍ يميل إلى النمطية بطبيعته (عالم ألف ليلة وليلة)، وإذا كنا قد أشرنا إلى بعض الهنات، فإن ذلك لا ينفي وجود نية تأليفية صادقة تحترم الحكاية الشعبية وتحاول أن تُعيد إنتاجها بلغة معاصرة مقبولة.

يالا الهول منك أيها الناقد الغريب، أو بمعنى أصح (ياللهول مني)، تكتب فنظن أنك ضد العمل، ثم تكتب فنظن أنك مع العمل، سأقول لكم قولا أخيرا: يا أهل (جودر) المصري أنا لست مع أو ضد، ولكن الكمال لله وحده.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.