
بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
كانت متابعتي لمسلسل (نفس) للكاتبة (إيمان السعيد)، تحمل قدرا لابأس به من شق الأنفس، ففيها كثير من التعب والشعور بالملل، لكن ما زاد من قدرتي على احتمال المشاهدة حتى آخر (نفس)، أن المسلسل يتمتع بقدر من الإثارة والشغف الرومانسي العذب أحيانا، فضلا عن عمق الرسائل التي يحملها في طيات أحداثه الرتيبة.
لست مع كاتبة مسلسل (نفس) في قولها: (إنه نفق مظلم وطويل قد يمر فيه كثيرون خلال مشوار الحياة)، فالحياة ليست هكذا ياسيدتي حتى تنتهي هذه الأنفاق – بحسب خيالك – عادة بالضوء!
ربما أرادت (إيمان السعيد) في هذا المسلسل أن تعبر جميع شخصياته في النفق وصولا إلى النور، كما (روح) التي أدت شخصيتها (دانييلا رحمة)، وكذلك (أنسي الرمال) الذي قام بدوره (عابد فهد)، لكنها فشلت مع باقي الشخصيات.
صحيح أن (روح) تجد نفسها بين جدلية العتمة والضوء، كذلك (ميرنا) و(غيث) و(أنسي) و(نوال) و(رؤوف)، بحسب رؤية (إيمان السعيد)، لكن الشخصيات تصارع ببطئ شديد يعتريه قدر من التكرار والملل للوصول إلى الحقيقة، حتى الرغبة في التحرر من الذنوب لاتبدو واضحة المعالم.
ولهذا فلم تنجح الحبكة الدرامية الغارقة في الظلام في (نفس) في إبراز شخصيات المسلسل التي تعيش ظلمة من نوع آخر هو الإحباط والفقر والفشل، هذا فضلا عن أن قصة المسلسل تقليدية، رغم أنها تحمل أبعادا نفسية، خصوصا في علاقة الآباء مع الأبناء التي جاءت منفرة تماما.
ولهذا كان ينبغي أن تراعي كاتبة (نفس) عنصري السرعة والإثارة في سير الأحداث حتى تتمكن من التقاط دراما أكثر إيجابية، وحتى يكون لها بعدها السيكولوجي بشكل أكثر وضوحا، بدلا من الغرق في براثن الملل.
معروف أن (إيمان السعيد) كاتبة تنتمي إلى المدرسة الدرامية الواقعية، لكن قلمها هذه المرة في (نفس) ذهب بعيدا إلى عالم الخيال، واستغرقت كثيرا في عوالم المسرح على جناح عالم الروحانيات والبعد النفسي في محاولة للعبور نحو دفة الأمان.

أداء (عابد فهد) الاحترافي
ومع كل تلك النتواءت التي اعترت نص (نفس)، إلا أنها لم تفسد هذا الأداء الاحترافي العذب، لكل من (عابد فهد)، و(دانييلا رحمة)، واللذين يبدوان أنهما يتوقان إلى خشبة المسرح بشغفها المعهود.
وهنا أقول براحة تامة: أجمل مافي مسلسل (نفس) أداء (عابد فهد) الذي جسد شخصية (زوربوية) في ملامحها وحركاتها، وأدى دورا غاية في الإتقان والجمال على مستوى الحركة والسكون بلغة جسد معبر للغاية، حتى في شروده ويقظته يبدو ممثلا من طراز رفيع اعتاد هذه النوعية من الأداوار المركبة.
تأمل معي مشاهده التي تحمل التركيبة الرومانسية البسيطة، وتوجيهاته الاحترافية لأفراد الفرقة على خشبة المسرح، وتعامله بقسوة شديدة مع العارضة الأولى، سوف تلمح شغفه المسرحي، حيث يتماهي مع الشخصية في صولاتها وجولاتها، خاصة مشاهد الحركة على الخشبة.
وكذلك الحال مع (دانييلا رحمة)، التي حلقت كفراشة تواقة للضوء، في حركة رشيقة وموحية، برقص احترافي، حيث لاقت (روح) الكثير من الإعجاب فور انتهاء مشهد الرقص الأول الذي أدته الراقصة العمياء على المسرح ببراعة، إذ أدهشت الجميع بما فيهم والدتها ووالدها وحبيبها (غيث) الذي يجسد شخصيته النجم (معتصم النهار).
ومازاد الاستعراض إبداعا وجمالا أخذا، أن وراءه موسيقى ساحرة للمبدع (تامر كروان)، حتى أنني أظن أنه ثالث أبطال مسلسل (نفس)، بحيث يأتي في الترتيب بعد أداء بطلي العمل (عابد فهد)، و(دانييلا رحمة)، من حيث الجودة الفنية والإبهار الذي يجلب المتعة، ويبدد حالة الملل التي اعترت السيناريو غالب الوقت.
وأحب أن أوكد هنا أنه على الرغم من الملل وتكرار المشاهد الرومانسية، سواء عن طريق الفلاش باك، أو حتى حين ولادة مواقف جديدة، إلا أنه قد أصابتني حالة من المتعة لابأس بها.
لكن ظني أن تلك المتعة كانت ستحمل كثيرا من الشغف في حال اقتصر صناع (نفس) على 15 حلقة فقط، لا 30 حلقة يقطع الملل فيها حالات النشوة، والتحليق في عوالم خيالية مصحوبة برقص استعراضي جميل.
نعم لوكان مسلسل (نفس) 15 حلقة، فربما كان حاكي نمطا بصريا مغايرا على عكس ما جاء به النص بإيقاعه وحكايته، ومن هنا كان يمكن أن يكون مبنيا على أسس صلبة ركيزتها المشاعر الإنسانية والرومانسية ضمن حبكة تشويقية، تعتمد على الصراع والتحديات التي تواجه حبيبين حالت الظروف الاجتماعية دون إكمال الحالة الرومانسية على وتر مشدود حتى الحلقة الأخيرة.

موهبة الرقص لدى (دانييلا)
دارت أحداث (نفس) حول حول بطلته دانييلا رحمة (روح) المصابة بالعمى، وشاءت الظروف أن تعيش بالظلمة قبل إنقاذها بعملية زرع قرنية، لتكتشف بأن الإعاقة زادت قوتها وبلورتها على مستوى موهبة الرقص، قبل أن تدرك لاحقا أن عالم العتمة هذا كان أقل وحشة من العالم المحيط بها بمجرد أن تفتحت عينيها.
يتناول (نفس) بالتالي قضايا اجتماعية وفنية تحتاج إلى تسيط أضواء كاشفة عليها، خاصة أن (إيمان السعيد) كتبت هذا المسلسل خلال الحرب الأخيرة في بيروت – كما تقول – وحاولت الهروب بقلمها إلى عالم مواز منفصل عن واقعها، وأن تدون مشاعر مغايرة عما عشته في ذلك الوقت.
ومن وحي الحرب في لبنان جاءتها فكرة شخصية (روح) الكفيفية لتستلهمها الكاتبة من هموم الناس التي خاضت تجربة قاسية رأت فيها الويلات، لذلك لجأت إلى كتابة عمل مجبول بالحب والرومانسية – على حد تعبيرها – تحضر فيه القسوة بهدوء حتى يستطيع المشاهد أن يلتقط أنفاسه مع أحداث تخلط بين الرومانسية والقسوة في آن واحد.
صحيح أن مسلسل (نفس) يحتاج من مشاهده التركيز في كل حلقة من حلقاته، إذ تتضمن مجرياته مفاتيح أجوبة لأسئلة وجدانية، فيستنتج متابعه من أحداثه ما يصب في خانة العلاج النفسي، عندما تقرر الشخصيات الخروج من عتمتها وضعفها، (وقد لعبت الإضاءة هنا دورا جيد) في التأكيد على الحالة الشعورية.
لكن هذه الإيجابية التي تحدثت عنها (السعيد) بقيت جامدة إلى حد كبير، وعبثا حاولت أن تحافظ عليها في ظل الصعوبات والصراعات التي يعيشها الأبطال ما بين عالم القرية بصفائها، وجمود العاصمة (بيروت) ببرودة مشاعر أهلها من سكان الطبقة التي تبدو مخملية، ومع ذلك فقد نجحت وضع إشكالية المسرح وتعزيز مكانته في صلب المشاهد الرئيسية للحكاية.
وهنا نرى جانبا من الإبداع في أداء (عابد فهد) الذي تدرج في التصعيد الدرامي والعاطفي رويدا رويدا، فنراه يأخذ حيزا لايستهان به من الأحداث عبر الكواليس التي تظهر في (مسرح نفس)، وتجلت براعته في ربط تعثر سير حركة المسرح، بالإشارة لنفس الحال مع رائد المسرح السوري والعربي (أبو خليل القباني).

غياب الأبعاد الواقعية
يرى البعض أن مسلسل (نفس) يمثل النموذج الوحيد لهذه الأعمال التي تتراوح في الجغرافيا واللهجة والبطولة بين سوريا ولبنان، وقد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما، لكنه شهد غياب الأبعاد الواقعية لعمل صاحبته معروفة بالواقعية في أعمالها الدرامية السابقة.
وظني أن حالة القبول للآخر وغيابها، التي حاولت الكاتبة اللعب على أوتارها، أفقدت المسلسل الكثير من عناصر الجاذبية المنتظرة، بل أوقعته في فخ الإطالة والملل، إذ كان ممكنا – كما قلت من قبل – اختصار الحكاية في 15 حلقة بدلا من نفخ الروح فيها ومحاولة سحبها طوال 30 حلقة في شهر رمضان.
كما أن الحوارات التي دارات في سياق أحداث (نفس) محصورة، بل يمكن القول أنها محبوسة في إطار اليوميات والوقائع، فلا رسائل بعيدة تحمل مضمونا يقدمه المسلسل، ما يجعل هموم الشخصيات بمعظمها مادية، لا سمو فيها، ولا عمق أكثر، بحيث يصنع حالة من الشغف والإبهار الذي كان منتظرا في عمل يخلط الرومانسي بالاستعراض بالتراجيديا في قالب غير منسجم.
على أية حال: أنا شخصيا استمتعت كثيرا بأداء (عابد فهد)، ولم أرى غلوا كما اتهمه البعض، بل على العكس كانت حركات إنسابية تعبر عن المشاعر الداخلية لشخصية (أنسى الرمال)، وصنع ثنائيا ناجحا مع الرائعة (دانييلا رحمة) التي يبدو أنها تدربت جيدا على الرقص الإيقاعي، فبدت لنا (روحا) تلامس الأرض بأقدامها الناعمة إلى حد الإبهار الحركي.
أيضا لمست بعضا من جودة الأداء مع القديرين (أحمد الزين، ختام اللحام)، وأيضا كل من (وسام صباغ، رانيا عيسى)، لكن قابلهم أداء فاتر من جانب (معتصم النهار، إليسا زغيب، جوزيف بونصار، غبريال يمين، إيلي متري)، ربما لأسباب تتعلق بنفسية الشخصيات المشوهة التي يجسدونها بحوار رتيب ومموج وممل للغاية.
حاول المخرج (إيلي السمعان) أن يعالج كثيرا من قصور النص، لكنه لم ينجح طول الوقت نظرا لوقوعه في شرك تكرار المشاهد التي أفسدت الحالة العامة للمسلسل، وغرقت به في براثن الملل.