
بقلم المفكر الكبير: الدكتور ثروت الخرباوي
لو أردت أن أكتب الإسم الكامل لمسلسل (جودر) فسيكون : (جودر شهريار إبن ياسر إسلام البزاوي، إبن مخيون بدير فكري محمد التاجي، إبن عبد المغيث وأخوته)، طبعا هناك أفراد كثيرين في عائلة (جودر) وكلهم على العين والرأس.
ولكن ما لفت نظري بحق وحقيقي وأنا أكتب هذا المقال الآن في منتصف الليل، بعد انتهاء شم النسيم، هما الفنان القدير المثقف مدرس التاريخ (مجدي فكري)، ومعه الفنان القدير (محمد التاجي) سليل التميز.
أما عن (مجدي فكري) ـ العم المباشر للفنان (طارق لطفي) ـ فقد بدأ حياته مدرسا للتاريخ ثم قرر ذات يوم أن يصنع لنفسه تاريخا، لكي يتم تدريسه ذات يوم، أما محمد التاجي فهو حفيد العملاق عبد الوارث عسر الذي على مدار العقود الماضية أصبح بدوره عملاقا سيفتخر أحفاده به، خاصة بعد أن اكتشف عبقريته المخرج إسلام خيري.
نعود لك يا عم (مجدي فكري) أو يا سيد شميعة، ففي مسلسل جودر (الجزأين الأول والثاني)، يقدّم (مجدي فكري) شخصية (شميعة)، وهو الأخ الأكبر ضمن (عصبة ملوك الجن الأزرق) أو ما يُعرف بـ (الشمعيين).
وهم مجموعة من ملوك الشر الذين يطاردون بطل العمل جودر (ياسر جلال) بهدف السيطرة على كنوز الشمردل الأربعة، شميعة هذا هو الزعيم الأقدم لهذه العصبة، وأخته شواهى (نور اللبنانية)، وأخوته من قبيلة الشمعيين الأشرار الذين يشكّلون جبهة موحّدة من المكر والطمع في وجه جودر رجل الخير والحب والسلام ، فكيف جسّد (مجدي فكري) دور شميعة الشرير؟
من حيث المظهر استعان الأستاذ المخرج إسلام خيري (وهو إبن حكاء مصر الأكبر الروائي الراحل خيري شلبي)، أقول استعان برسم علامة (العنكبوت) على وجه (مجدي فكري) كرمز لشرّه، فالعنكبوت هو رمز للشر في بعض الثقافات القديمة إذ لديه القدرة على التقاط فريسته بسهولة دون أن تشعر.
وهو الأمر الذي منح شخصية (شميعة) أفقًا أسطوريًا مشوقًا، وأكّد دوره كـ (كبير الشمعيين)، ورمزا للشر الذي يتقدم ليقبض على فريسته بهدوء شديد، وهدوء العنكبوت هو ذاته هدوء أداء (مجدي فكري) في هذا المسلسل، ثم وقت التهام الفريسة يتحول ليكون حادا وقاتلا.

شميعة الشهير بـ (مجدي فكري)
كما أن شميعة الشهير بـ (مجدي فكري) ارتدى في كل المشاهد أزياء غامقة ذات أطواق عالية وزخارف تمثل سلطة الجِن، وهو أيضا الأمر الذي ساعد على صياغة حضور بصري قوي يميّزه عن بقية الشخصيات، وقد اعتمد (مجدي فكري) على حركات بطيئة ومقنّنة، مع إيماءات دقيقة.
وفي بعض الأحيان نظرات قصيرة تتلوها ابتسامة مُرّة وخبيثة، الأمر الذي خلق تباينًا بين لحظات السيطرة والتهدئة والشر الدفين خاصة في المشاهد القاتلة، وقد كان مشهدا مبدعا في تمثيل الشر عندما قام شميعة بقتل أخيه (أشمع) في نهاية الجزء الثاني، وقد استخدم (مجدي فكري) في هذا المشهد سرعة في الحركة وتعبيرًا متشنجا ظهر في قسمات وجهه ليُبرز جنوح الشخصية إلى العنف بلا تردّد.
وفي كل مشهد من مشاهد (شميعة) لصاحبه (مجدي فكري) نجده قد استطاع أن يوظّف نبرة صوته بشكل منخفض وغليظ عند الإقناع والترغيب، ثم إذا بهذه النبرة المنخفضة ترتفع في لحظات الغضب أو التهديد، وهذه القدرة على التنويع الصوتي جعلتنا نشعر برغبة (شميعة) في الهيمنة والسيطرة.
وقد نجح (شميعة) بهذه النبرة الصوتية والحركة الجسدية في التناغم مع أداء شقيقته شواهى (نور اللبنانية) في مشاهد التآمر، ثم كانت نظراته الخبيثة لشواهي والتي أكدت لنا أن الأخ شميعة لا يرغب في القتل إلا ليستولي وحده دون أخوته على كنوز (الملك الشمردل).
ففي الجزء الأولى كانت تنويعاته وتحركاته ونظراته لأخوته تشير إلى التشارك معهم وليس الانفراد، ثم بعد ذلك أصبح (شميعة) وكأنه يقول لنفسه: أنا وحدي صاحب الحق في هذه الكنوز ولو قتلت كل أخوتي، وقد حافظ (مجدي فكري) على سُلّم الشرّ الذي يصعد عليه داخل نفسيته.
ولكنه في كل المراحل كان يفشل حينها كنت تجد لمسات من اليأس والتحطّم النفسي، وقد أعطاني هذا من خلال تمثيل مجدي فكري معنى غير مكتوب ولكنه مرئي، يتحرك أمامنا، هو أن الشر لا يكتفي أبدا بل دائما يضاعف من آثامه.
هذه العناصر التي اجتمعت في أداء (مجدي فكري) جعلت منه واحدًا من أقوى (أعوان الشيطان) على الشاشة، يُجسّد الطمع والوحشية والدهاء بأسلوب يمزج بين الخيال الأسطوري والواقعية النفسية.
والمدهش في (مجدي فكري) أنه يؤدي الأدوار الكوميدية بذات البراعة، بحيث أنك عندما تشاهده مثلا في دوره الكوميدي الجميل في مسلسل وضع أمني، لا يمكن أبدا أن تتصوره شريرا، وإن جاز لي القول أقول إن هذا هو الرجل صاحب الألف وجه.

أكتب عن (محمد التاجي)
والآن أنا في مهمة صعبة، فحينما أكتب عن (محمد التاجي) يتوقف قلمي عن الكتابة، إذ كيف أكتب عن رجل أطلقت عليه أنه: صاحب المشاهد العبقرية، فمحمد التاجي يمثل بشكل عادي وجميل ومحبب للنفس، ليس متفوقا بشكل كبير، ولكنه صاحب الأداء السهل البسيط.
وفجأة يأتي مشهد من المشاهد، فإذا بهذا الرجل العادي يصبح صاحب أداء أسطوري غريب، يجمع بين عبقرية الأوائل، وإتقان عمالقة المسرح، وكأنه في هذه المشاهد تتنزل عليه روح جده عبد الوارث عسر، تهبط على روحه لتضفي عليه لمسة عبقرية.
هل تريد تأكيدا على هذا؟، فلتشاهد معي جودر، ودوره فيه، هو الوزير (قمر الزمان)، ومع أن مشاهده في المسلسل خاصة في الجزء الثاني قليلة، وهو فيها يمثل فيها بشكل عادي، ولكنه فجأة يبلغ ذروته في المشهد المشحون الذي يُتَّهَم فيه بالخيانة هو وبناته الثلاث، بينما كنَّ في زيارة لعمهنّ – أخ الوزير – في معقل أسرته.
وإذا فكرت وفكرت كثيرا ستجد أداء (التاجي) في هذا المشهد يختلف عن مشاهده في كل المسلسل، ففي الجزءِ الأوّل كان الوزير (قمر الزمان) هو الرجل الهادئ، الذي يعتمد على الكلام الرفيع والنبرة المؤثرة.
لكنه في الجزءِ الثاني، وفي ذلك المشهد على وجه الخصوص الذي تم اتهامه فيه بالخيانة نراه مفجوعا ومتحفّظا في آن واحد، فهو يدرك ثقل التهمة حتى قبل أن يعرف موضوعها، وهذا التحول في الشخصية كان مقروناً بتحوّل في إيقاع (التاجي)، من تمهّل الأداء في الطرح إلى اعتراض صوتي سريع كلما حاول الدفاع عن بناته.
ففي اللحظات الأولى من المشهد، يعتمد (التاجي) على وقفة مشدودة قليلاً، يركن ظهره على (الدرابزين)، وهو الأداء الذي يعكس من خلاله خوف الأب على بناته قبل خوفه على سمعته السياسية، وعند إلقاء الاتهام، رأيناه يميل إلى الأمام بخفّة، وهذا من حيث الأداء المسرحي يُعتبر ترجمةً لضيق الصدر.

يبرع في التلوين الصوتي
كما أنه في هذا المشهد بالذات يبرع في التلوين الصوتي، من هدوء إلى أشبه بالهمس ثم إلى الانفعال، الهمس يشير إلى الابتعاد عن الواقع، وكأنه دخل إلى عالم ضبابي لا يستطيع أن يرى فيه شيئا، ثم يعود بجسده قبل عقله، ثم يعود للواقع فيرتفع صوته للمطالبة بالعدالة.
ورغم الاتهام يُحافظ (محمد التاجي) بأدائه على الرعاية الأبويّة لبناته، وتظهر هذه الرعاية في أداءه حين تنظر إليه ابنته (شهرزاد) بارتباك، حينها يمدّ ذراعه بشكل خفيف نحوها، تعبيراً عن إصراره على حمايتها أكثر من حاجته لنفسه، هذه اللحظة القصيرة حملت في طيّاتها قدرًا كبيرًا من المشاعر المُضادة مثل الولاء العائلي من ناحية مقابل الولاء السياسي من ناحية أخرى، وقد نجح (التاجي) في نقلها بلا افتعال.
وحين يبدأ الوزير في الدفاع فإذا به يُصرّ على براءته وبُراءة بناته بإباء وكرامة وعزة نفس، ثم يتحوّلمن الدفاع إلى شكل خفيف من التهديد تجاه من اتهمه، فتظهر في صوته ارتعاشة تكشف ما وراء الكلمات من غضب مخبوء، هذا التدرّج يجعل المشهد لا يكتفي بطرح (براءة الأب) فحسب، وبراءة البنات وقدسية شرفهن فقط بل يركّز على الانتقام الرمزي، كيف يدافع عن شرف العائلة، بل ويتوعّد المخطئين أمام بناته.
ما شاء الله عليك يا أستاذ (محمد التاجي)، أنت أمامي الآن ذلك الممثل العبقري الذي تم اكتشاف عبقريته أخيرا على يد المخرج (إسلام خيري) بعد خمسين عاما من اشتغاله بالفن.
الآن أيها المخرجون أمامكم فنانا عبقريا لو تركتموه سينهال عليكم التاريخ لكما وركلا، وسيتم اتهامكم بالسطحية والبلادة وضيق الأفق، وهنا انتهى الكلام المباح عن التمثيل والممثلين وسأعود إليكم قريبا للحديث عن التأليف والإخراج.