
بقلم المستشار: محمود عطية *
هو الحكم في هذا الوطن الذي لا تنفد فيه عجائب الترفيه ولا تنضب فيه ينابيع العبث، ظهر علينا هذا الكائن الجديد المسمى بلجنة (الدراما)، وكأن (الدراما) كانت تتمرد وتثور بلا رقيب فجاء هؤلاء الفاتحون ليضبطوا الإيقاع ويعيدوا الأمور إلى نصابها، لكن يا للمصادفة السعيدة، إن نصاب الأمور عندهم يشبه نصاب اللصوص لا نصاب العقلاء.
لجنة كاملة متكاملة اجتمعت لا لتصنع (الدراما) بل لتصنع ملهاة، ولا لتدير قطاعًا حيويًا بل لتدير رؤوسنا من كثرة اللف والدوران، لجنة ضمت في عضويتها من ضمت وكأن الوطن قد خلا من المبدعين الحقيقيين فاختاروا من استطاعوا أن يهدموا ما تبقى من أي شيء يشبه الفن الأصيل.
ثم جلسوا متأنقين على مقاعد اللجنة يوزعون الانتقادات والملاحظات وكأنهم لم يكونوا ذات يوم جزءًا من الكارثة نفسها، ويا للعجب: من خربها صار هو لجنة التفتيش، تلك الكارثة التي تطل علينا كل موسم بطبخة درامية بائسة تتكرر فيها نفس الوجوه التي لم تعد تمثل بقدر ما تؤدي طقوسًا محفوظة.
نفس النبرة، نفس الصراخ، نفس الهروب من النص إلى العضلات، من التمثيل إلى التهريج، ثم يخرجون علينا غاضبين، لماذا لم نُدعَ إلى اجتماعات اللجنة؟، ولماذا تم تهميشنا؟، وكأنهم لم يكونوا هم الذين حوّلوا رمضان من موسم إبداع إلى سباق من يصرخ أكثر، ولو كانوا صادقين في شكواهم لكان شعارهم (إما أن نمثل أو نحكم).
لكنهم لم يفلحوا لا في التمثيل ولا في الحكم، ثم يأتيك السؤال المضحك المبكي: ما علاقة أعضاء اللجنة أصلاً بـ (الدراما)؟، كيف تم اختيارهم؟، وفق أي معيار؟/ أم أن الأمر لا يعدو كونه توزيع أدوار خلف الكاميرا بعد أن ملّوا الظهور أمامها؟ لماذا فلان وليس علان؟ ولماذا ممثل اعتاد الوقوف في الصف الثاني أصبح فجأة قيّمًا على الإبداع؟

مجاملات، مصالح، توفيقات فوقية
الإجابة الوحيدة المنطقية أن الأمر لا علاقة له بالفن ولا (الدراما) بل بكل شيء آخر: مجاملات، مصالح، توفيقات فوقية، واتفاقات على موائد عشاء باذخة تقرر مصير الفن في غياب الفن ذاته، لجنة (الدراما) تشبه سفراء النوايا الحسنة لكن بلا نوايا وبلا حس، تقرر من يعمل ومن لا، من يُرفع ومن يُسقط، وأحيانًا من يُنسى في الأرشيف إذا لزم الأمر.
حتى بات كل من فيها يقول في سره: اللجنة أنا… والباقي كومبارس، والأكثر إثارة للغثيان هو موضوع الثلاثين مليار جنيه، ثلاثون مليار تُصرف كدعم للإنتاج، دعم من الدولة، من أموال الناس، من ضرائبهم وعرقهم ودمهم، تُعطى بسخاء لمنتجي التفاهة ليعيدوا تدوير الوجوه ذاتها، بالمواضيع ذاتها، بأسلوب أقرب إلى السجع المنفّر منه إلى السرد المقنع.
وكأن المشخصاتية باتوا من مستحقي الدعم الاجتماعي، يدخلون ببطاقات التموين ويخرجون بشيكات الإنتاج بالملايين وهم لا يسلون ملاليم ما هذا الهراء؟، بأي منطق تدفع الدولة ثلاثين مليار لدعم أعمال لا يتعدى محتواها مزيجًا من الصراخ والبكاء ومطاردات السيارات وانهيارات عاطفية مفتعلة؟.
هل فقدنا البوصلة تمامًا؟ أم أن البوصلة صارت تشير فقط إلى جيوب بعض الناس؟، وكأننا نعيش في مسلسل اسمه (عطّل عقلك وخد شيك)، ثم يتحدثون عن تطوير الصناعة، أي صناعة؟، هل (الدراما) تحوّلت إلى صناعة فعلاً؟ أم أنها مجرد تجارة بلا أخلاق؟
هل الصناعة التي يقصدونها هى إنتاج أكبر قدر من المسلسلات بأقل قدر من الجودة؟، هل هى تحويل الممثلين إلى أدوات دعائية لمشاريع ليس لها علاقة بالواقع؟، هل الصناعة التي يتشدقون بها هى التوريث الفني؟
أن ترى أبناء وبنات الممثلين يتصدرون الشاشات فقط لأن أسماءهم على شاكلة آبائهم؟ كأن شاشة التلفزيون تحوّلت إلى ألبوم عائلي مفتوح: ابن فلان يقدم دور بطل، وابنة فلانة تلعب دور عشيقة البطل، والموهبة؟ في إجازة مدفوعة الأجر.
ولأن السخرية لا تكتمل إلا حين يمتزج الفشل بالغرور، فإن أعضاء لجنة (الدراما) لا يرون ما نحن فيه أزمة بل مرحلة انتقالية، انتقالية إلى ماذا؟ إلى حفرة أعمق؟ إلى هاوية أوسع؟
إنهم يظنون أن الجدل حولهم علامة على الأهمية، بينما هو في الحقيقة دليل قاطع على أن وجودهم في هذا الموضع خطأ فادح، فهم لا يمثلون لا الفن ولا النقاد ولا حتى الجمهور، هم يمثلون أنفسهم، يمثلون شبكة علاقات معقّدة ومصالح متشابكة، ثم يرتدون قناع الحياد ويحدثونك عن التوازن والتطوير والارتقاء بالمهنة وهم لم يرتقوا بأنفسهم أصلًا.
باختصار: ناس بتتكلم عن ارتقاء (الدراما)، وهم لسه بيحكوا نكت من 2010، أما عن الشكوى من التهميش، فهي لا تصدر إلا من أولئك الذين تربعوا لسنوات على عرش الفرص بلا نتيجة، وحين قررت الجهات – عن حق أو عن باطل – أن تعيد توزيع الفرص، صرخوا كأنهم ضحايا.

التصفيق للرداءة، والتبرير للفشل
والحقيقة أنهم ليسوا ضحايا بل نتائج، نتائج سنوات من التصفيق للرداءة، والتبرير للفشل، والتغطية على كل انحدار تحت شعار: هذا هو السوق، فإذا بالسوق يلفظهم، فجاءوا يستنجدون بلجنة تعيد لهم مكانتهم، أو على الأقل تضمن لهم موطئ قدم في موسم لا يرحم ولا ينسى.
وبكل وقاحة يُعلّق أحدهم: من غيرنا الشاشة هتبقى فاضية، وكأن الشاشة لم تكتفِ فعلًا من الفراغ، كل هذا العبث يُقدَّم تحت شعار دعم الفن، أي فن؟، الفن الذي يخاطب الإنسان أم الذي يخاطب الغرائز؟، الفن الذي يحترم العقل أم الذي يحشو الحلقات بحوارات لا تقول شيئًا؟ الفن الذي يترك أثرًا أم الذي يُنسى قبل أن ينتهي؟
لو كان هذا الدعم يُمنح لمشاريع تقدم رؤية، تحمل مضمونًا، تعكس قضايا المجتمع، لقلنا حسنًا، لكن أن يُمنح بهذه الصورة الكاريكاتيرية، فهو ليس دعمًا بل رشوة ناعمة، رشوة لمن يملك القدرة على أن يصمت أو أن يطبل، رشوة لمن يضع يده في يد اللجنة ويغض البصر عن مستوى ما يُنتَج.
وصدق من قال: في أوطاننا، كل شيء قابل للدعم.. إلا الموهبة، والأدهى أن الجمهور لم يعد غافلًا، الناس صارت ترى وتسخر، تقارن وتضحك، تستهزئ بكل تصريح يصدر من مسؤول درامي لا علاقة له بـ (الدراما)، تتابع الإنتاج المحلي لا حبًا فيه، بل حبًا في جلد الذات، ويصبح الحديث عن الجودة نوعًا من الكوميديا السوداء.
لأنك ببساطة لا تجد شيئًا يرقى إلى مستوى النقاش الجاد، مجرد مواد بصرية تمر مرورًا عابرًا لا تترك وراءها إلا الاستياء، وكأن القنوات كلها قررت أن تتنافس في من يقدم أسوأ عمل بأعلى تكلفة، وكأن النجاح الحقيقي صار يُقاس بعدد الميمز الساخرة لا بعدد المشاهدين.
في النهاية، لجنة (الدراما) ليست سوى مرآة لما آلت إليه حال المهنة، مهنة بلا حماية، بلا بوصلات، بلا معايير، مجرد أسماء تتبادل الأدوار داخل الاستوديو وخارجه، يختارون لأنفسهم من يمثلهم، ومن يراجعهم، ومن يصفق لهم، ثم يحتجون حين لا يأتي التصفيق.
أما الجمهور، فهو آخر ما يُفكر فيه، يُفترض به أن يبلع كل ما يُقدَّم له ويصمت، وإذا تحدث، فإما أنه حاقد، أو جاهل، أو لا يفهم في الفن شيئًا، هكذا يعتقدون، وهكذا سيفشلون، مرة بعد مرة، حتى تصبح الدراما فعلاً لا تحتاج لجنة بل جنازة رسمية، ومعها عبارة (هنا دُفنت الدراما)!
والسؤال الذي يطرح نفسه: الثلاثين مليار يبنوا كام مصنع لتشغيل الشباب أو كام مستشفي او كام مدرسة أو أو اتوزعوا على الشعب أو أغلبه يشتري بهم خبز بدلا من إذلاله بخبز التموين وتذكيره بالدعم الذي يدعم به الرغيف الذي يدفع ثمنه من الضرائب التي وصلت إنها أغلب مورد للدولة.
وذلك بدلا من منح المشخصاتيه وذريتهم أبناء وأحفاد الملايين وراتب الطبيب 2800 جنيه، ويطالب احدهم بمنعه من الهجره بعد تخرجه لمدة خمس سنوات في حين ان هذا الشخص راتبه يقترب من 400 ألف جنيه يوميا وعمله ساعتين فقط في خمس أيام من الاسبوع لمجرد جعير وضربة حظ لدى سيده.. استقيموا يرحمكم الله!
* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع