رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

كمال زغلول يكتب: عرض (التمثيل)ٍ الأول في التاريخ الإنساني.. والجهاز الحسي (الإعجازي)

كمال زغلول يكتب: عرض (التمثيل)ٍ الأول في التاريخ الإنساني.. والجهاز الحسي (الإعجازي)

كمال زغلول يكتب: عرض (التمثيل)ٍ الأول في التاريخ الإنساني.. والجهاز الحسي (الإعجازي)
البدايات الأولى للإنسانية في (التمثيل) دالة على أن الإنسان كان مُشاهِدا لكل ما حوله من الأشياء

بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول

(التمثيل) من الفنون التي ترتبط بعلاقة مع النفس البشرية، ونتحسس هذا المعنى من تأثيره في النفس؛ حيث إن الإنسان بفطرته كائن يمتلك التعبير عن ذاته أو مجتمعه بعدة طرق أهمها فن (التمثيل).

ولذلك لهذا الفن عراقة تاريخية يمكن أن نحددها منذ بداية الوجود الإنساني على الأرض، فالإنسان كائن متأثر ومؤثر، ولذلك فهو يتأثر بما حوله ثم يعبر عن تلك المؤثرات في صورة تعبيرية تمثيلية  مؤثرة فيما حوله من العلاقات الاجتماعية.

وبالطبع كون الإنسان خبرته الجمالية (التأثير والتأثر) بعد أن أصبح له خبرات حسية  جمالية (ثقافة) تكونت نتيجة اكتشاف قدراته النفسية المستمدة من الحس والشعور والذهن والتصورات والخيال  وإمكانيات جسده الأدائية في التعبير.

والتي يعتمد عليها فن التمثيل، ولهذا أصبح للإنسان ثقافة حسية، والمقصود بها: كيفية تعرف الإنسان على مناطق التأثير والتأثر في نفسه وفي الآخر، وتلك المناطق تنحصر في الحواس والذهن والشعور، وقد أصبحت معلومة لديه، ولها استخدامات من أهمها فنون العرض والأداء

البدايات الأولى للإنسانية في (التمثيل) دالة على أن الإنسان كان مُشاهِدا لكل ما حوله من الأشياء، ولم يستطع تكوين عرض مسرحي، إلا بعد أن تكونت عنده الثقافة الحسية، ونلاحظ أن بدايات الحياة الإنسانية كانت بها صور من العروض التعليمية للإنسان، وهي وحي إلهي للإنسان.

ونجد هذا في بدايات الحياة الإنسانية في صورة أسرة مجتمعة، عبر حياة آدم وحواء بعد أن أنجبا الذرية، وما حدث بين (قابيل وهابيل) من صراع أدى في النهاية إلى قتل قابيل لهابيل.

وهذا الفعل كان أول الأفعال المؤثرة في التاريخ الإنساني، وبعد حادثة القتل، توقف العقل الإنساني عن الإدراك، فلم يعد يعرف (قابيل)، ماذا يفعل بجثمان أخيه؟ بل لم يشعر أساسا بما ارتكبه من جرم، فقد تصرفت نفسه لكي تصل إلى شيء ليس من حقه، و يريد الحصول عليه.

وقد دفعته نفسه إلى ارتكاب جريمة القتل بدافع الحقد والحسد المتوطن بداخله لأخيه هابيل، ولابد من طريقة للتخلص من جسد أخيه، ولكنه لا يعرف، وهنا يأتي له غرابا؛ ليعلمه ماذا يفعل؟،  وهذا في التنزيل العزيز، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيريهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادمينَ) المائدة – الآية (31).

كمال زغلول يكتب: عرض (التمثيل)ٍ الأول في التاريخ الإنساني.. والجهاز الحسي (الإعجازي)
لم يكن العرض لتعليم الدفن فقط، بل تعرض للفعل الذي فعله هابيل

عرض الغراب

من الآية  الكريمة نرى أنها تشير إلى عرضٍ (التمثيل) تم أمام (قابيل)، هذا العرض وإن كان عرضاً تعليميا، إلا أنه ذو صفة تأثيرية في نفس المُشاهِد للعرض ( قابيل )، فقد ذكًره بطبيعة جرمه الذي ارتكبه، فلم يقم الغراب بالدفن فقط، بل قام بعرض  يماثل الفعل الذي قام به القاتل يصور صراعاً بين غراب وغراب آخر حتى قتْلِ أحدهما للآخر.

فلم يكن العرض لتعليم الدفن فقط، بل تعرض للفعل الذي فعله هابيل، حتى يشعره بهول ما فعل، وهكذا يكون تأثير العرض على وقع المُشاهِد، وهنا تظهر المعجزة الإلهية في خلق النظام الحسي داخل الإنسان، ونتعرف على طريقة عمل ذلك النظام من خلال عرض الغراب الذي تم أمام (قابيل).

وذلك عبر تحليل الطريقة التي أُعِد بها العرض ليصبح عرضا تأثيرياً في النفس الإنسانية المُشاهِدة لذلك العرض، وهذا تم عبر مجموعة من المراحل هي:

أولا: موضوع  العرض 

لقد تمت معالجة موضوع العرض، ليتوافق مع الجرم الذي ارتكبه قابيل، وليذكره بما فعله، فارتبط الموضوع  بالقتل، واشتمل على شخصيتين من الطيور، ولكي يزيد التأثير على المُشاهِد، كان الطائران من جنس واحد وهما غرابان، مما يوحي لقابيل  بأنهما أخوين من نفس الجنس في إشارة إلى جنسه الآدمي  وما حدث بينه وبين أخيه من صراع أدى إلى قتل (هابيل).

ولذلك قام صراع بين الغرابين وقتْل أحدهما للآخر، كما حدث بينه وبين أخيه، ثم قام الغراب القاتل  بدفن الغراب  المقتول، حتى يتعرف المُشاهِد على كيفية الدفن، إلا أن تعرض الموضوع للقتل بهذه الكيفية، له بُعْدٌ في إثارة نفس المُشاهِد، ليعرف طبيعة الفعل الذي ارتكبه، ويعرف مدى جهله بطبيعة الجرم الذي ارتكبه، وجهله في عدم امتلاكه ثقافة (تعلم كيفية الدفن).

ثانيا: أداء  العرض

لقد كانت طبيعة أداء عرض  (التمثيل)، بمعنى المماثلة بين فعل القتل الذي ارتكبه قابيل، وفعل القتل الذي قام به الغراب، واعتمدت طريقة العرض على الأداء الحي للغراب، وذلك لأن الأداء الحي  له قوة تأثير على نفس المُشاهِد، وقد تم إخراج العرض  من خلال مجموعة من المراحل هى:

أ- المكان:

مكان العرض تم تجهيزه وإعداده ليشمل العرض والمُشاهِد، فقد تم تقسيم المساحة المكانية إلى قسمين: قسم خاص بتمثيل العرض، وقسم خاص بالمُشاهِد المتلقي للعرض، وقد تم إعداد كل قسم من القسمين بما يتناسب مع الهدف العام الذي ينشده العرض.

وهذا التقسيم لم يأت من فراغ بل هو تقسيم مقصود ومرتب وفق طبيعة العرض، هذا ولكل قسم من القسمين تجهيزاته الخاصة حتى يتم إجراء العرض وهذا ما نلاحظه:

كمال زغلول يكتب: عرض (التمثيل)ٍ الأول في التاريخ الإنساني.. والجهاز الحسي (الإعجازي)
اشتمل المكان بالتأكيد على التربة الصالحة التي يستطيع أن ينقر فيها الغراب بمنقاره و مخالبه

القسم الخاص بالمُشاهِد

وهذا القسم أُعِد بطريقة تتيح للمُشاهِد رؤيا العرض من جميع الزوايا؛ حتى تستطيع حواسه تلقي العرض المسرحي والتأثر به والانفعال معه.

القسم الخاص بالتمثيل

وهذا القسم قد تم إعداده وفق متطلبات المنظر المسرحي، وهذا القسم نظرا لأنه يحوي الجو العام للعرض المسرحي، فهو يمثل مكاناً داخلياً للأحداث، ولذلك تم تجهيزه وفق طبيعة المكان الذي تدور فيه أحداث العرض، وقد اشتمل المكان بالتأكيد على التربة الصالحة التي يستطيع أن ينقر فيها الغراب بمنقاره و مخالبه حتى تستطيع قدراته الجسدية عمل فعل الدفن.

ب: المنظر المسرحي  والإضاءة

العرض تم في الطبيعة الأرضية بكل إمكاناتها، بمعنى أن المنظر تم طبيعيا، إذ السماء، والجبال.. الخ، وهذا المنظر مشابه تماما لحادثة القتل التي ارتكبها هابيل.

ج:  التمثيل   

الشخصية الرئيسة في العرض هو (الغراب) بطل العرض والممثل له.

د: المُشاهِد

المُشاهِد هنا في حالة من المراقبة، وعندما تم الفعل من الغراب، نجد التأثير الأليم على (قابيل)، هذا التأثير نتيجة عمل الجهاز الحسي الذهني  لدى قابيل، ونحدده في النقاط التالية:

أولا: الحواس

الحواس  من الوسائل الأولى  التي يستقبل بها الإنسان العرض، وعن طريقها يحدث الإدراك الحسي أي (معرفة مباشرة للأشياء عن طريق الحواس)، إذ تتجه الحواس إلى مشاهدة العرض، وتتنبه لما تراه، ويعود ذلك إلى أن العرض به ما يجذب الإنسان لما يشاهده.

وهذا راجع إلى أهمية الموضوع المقدم من خلال العرض، فهو هام بالنسبة للمُشاهِد، مما يجعل نسبة تركيزه الحسي عالية، ويكون مستقبلا للعرض، بجميع حواسه حتى يتم إدراك جميع جوانب العرض حتى نهايته.

ثانيا: الإثارة

والعرض هنا يعمل على تنبيه الحواس – أي إثارتها – حتى يتم إدراك صورة العرض، إذ أن الإدراك (حصول الصورة عند النفس الناطقة)، حتى تدخل تلك الصورة في ذهن المُشاهِد.

كمال زغلول يكتب: عرض (التمثيل)ٍ الأول في التاريخ الإنساني.. والجهاز الحسي (الإعجازي)
بعد استقبال الحواس لصورة العرض تدخل تلك الصورة إلى ذهن المُشاهِد

ثالثا: الذهن

وبعد استقبال الحواس لصورة العرض تدخل تلك الصورة إلى ذهن المُشاهِد، وهنا تبدأ (العملية العقلية التي توصل إلى المدرك الذهني)، والتي تعرف بالإدراك الذهني. وتلك العمليات العقلية تتم على مستويات مرتبة  كالتالي :

أ: الذاكرة : فيتذكر المُشاهِد فعل القتل الذي فعله.

ب: الانفعال: وذلك عن طريق الصور المحزنة من فعل القتل السابق في ذهنه، ومقاربتها لصورة الفعل في العرض المقدم، وهذا الانفعال يؤدي إلى الشعور الواعي المدرك للحدث.

رابعا: الشعور

وهو الانطباع الداخلي للمُشاهِد، وظهور علامات التأثر عليه، وتلك العلامات هى: البكاء والندم، والانكسار، والحسرة.

وهذا العرض تم إعداده وأداؤه وفق طبيعة عمل الجهاز الحسي الذهني للإنسان لكي يؤثر فيه بشكل تمثيلي ذي طبيعة أدائية حية، وكما نرى كان الإنسان في هذا العرض متلقياً ومشاهداً للعرض، ومنه تعرفنا على طبيعة  الجهاز الحسي عند الإنسان الذي هو آية من آيات الله في خلقة للإنسان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.