



بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
في حلقتي أمس وأول فتحنا هذا الملف الشائك بتفاصيله المرعبة حتى تكون (الدراما) طوق النجاة والخلاص، وتجسد لنا ملحمة رد الاعتبار للشاشة الفضية المصرية، التي كانت يوما صاحبة الريادة، ومنبرا حرا للتنوير، ووسيلة نظيفة للمتعة والتسلية والتسرية التي لاتخدش الحياء في جلها، بقدر ما تجنح نحو آفاق تربوية تثقيفية بوعى من ضمير.
وقلت أن إن أعمال (الدراما) مثل (القاهرة والناس، محمد رسول الله، ليالي الحلمية، الراية البيضاء، رأفت الهجان، دموع في عيون وقحة، المال والبنون، زيزينيا، أرابيسك، الليل وآخره، الضوء الشارد، لن أعيش في جلباب أبي ، نصف ربيع الآخر، المصرواية، الرحايا، قصة حب، حارة اليهود، الشوارع الخلفية، الجماعة).
وغيرها الكثير والكثير، لم تكن مثار اهتمام المواطن المصري وحده، بل تجاوز الأثر حدود مصر وذهب إلى كثير من دول العالم وتفاعل معه الوطن العربي بكامله، رغم أنه كانت يتحدث عن حالة مصرية خالصة، ويستعرض ما طرأ عليها من تقلبات، ومن هنا كان المسلسل سفيرا للإنتاج الدرامي في المنطقة العربية.
واليوم نستكمل تفاصيل آخر حلقات هذا الملف الشائك للوصول نحو مشروع وطني في (الدراما) يدعو للتمسك بالقيم والتقاليد العريقة داخل المجتمع المصري العربي بأثره، فضلا عن كونه كيانا جديدا يمكن أن يجمل ويحسن وجه مصر الدرامي، ويساهم في اعتدال المزاج العام في افتقاده للإبداع الجميل.
التلفزيون في حد ذاته أصبح لايعاني قصورا في أدواته، بل إن تواصل الإحساس الذي يقوم به قائم على صورة تعبر عن فكر وقيم المجتمع، وهناك مشروع درامي مهم وطموح تحت عنوان (عادات وتقاليد) وهو موجود الإنتاج في قطاع الإنتاج بالتيفزيون، وتم التخطيط له ليكون ضمن أحد مواسم الموسم الرمضان الماضية ، لكن لم يتم البدء فيه حتى الآن نظرا لعدم توفر الدعم المطلوب.
رغم أنه مشروع وطني يدعو للتمسك بالقيم والتقاليد العريقة داخل المجتمع المصري العربي بأثره، فضلا عن كونه كيانا جديدا يمكن أن يجمل ويحسن وجه مصر الدرامي، ويساهم في اعتدال المزاج العام في افتقاده للإبداع الجميل، وفي شكل تربوي لايبعث على العنف أو الخجل ودرء المسكوت عنه خلف جدران تضربها الرطوبة، كما يتصور كثيرون من صناع الأعمال المزيفة والتي لاتنتمي لقيمنا الأصيلة.


أهمية الفن كقوة ناعمة
لاشك أن أهمية الفن تكمن في كونه قوة ناعمة، و(الدراما) منها على وجه الخصوص، وهو ما يحملنا مسئولية كبيرة نحن المعنيون بالإبداع في تلك اللحظة الفاصلة من عمر مصر، وربما هذا يستدعي ضرورة إعادة النظر في إنتاج الدولة، وإصلاح الخلل وتعافي التليفزيون من براثن الترهل الذي أصابه في مقتل، جراء مضمونه الذي لايرقى للمستوى المطلوب.
وربما كنا أحوج ما نكون الآن للإصلاح الإعلامي الشامل قبل إصلاح (الدراما)، لكن لدينا أمل تكون السنوات القادمة فرصة لنهضة حقيقية، على ألا يبقى من يقوم بإنتاج عمل ملوث يظل على تلك الوتيرة، طالما كانت ثقافة المؤلف أو الكاتب، وكذلك ثقافة شركة الإنتاج تعتمد على البضاعة الفاسدة.
ولن يكون هناك اعتدال للمزاج العام طالما نعاني أمراضا اجتماعية، ونترك دور الدولة نهبا لإبداع قوامه الإسفاف والتدني، في الواقع هو نتاج فساد كبير في أكثر من منظومة في المجتمع، ومع ذلك لست متشائما، فلقد عادت الدراما المصرية وبقوة في موسم رمضان 2025، وهى الآن تبشر بمستقبل واعد، ويقيني أن مصر ستتقدم طالما فنها يسير على طريق التقدم.
وكي يتحقق ذلك فإننا لابد أن نعني بالقيمة، من خلال أعمال (الدراما) القادمة من رحم الشارع المفعم بالحيوية في قلب الحياة المصرية الحقيقية معبرة عن الجدية والصدق في تناول تلك القضايا بطابع رومانسي أحيانا، متضمنة اللون الاجتماعي الصرف والذي يعلي من شأن العائلة والفرد، وقيم المودة والعطاء، فضلا عن مسلسلات تاريخية تعنى بالهوية.
فضلا عما يعن به هذا الشارع من حالات الشجن والعفوية المصرية وروح الدعابة الصادقة لدى المصريين من فرط ما يتعرضون له من أوجاع تسرى فكاهة عذبة على ألسنتهم، وكذلك تصدينا للتشدد الديني، وكذلك المسكوت عنه من قضايا شائكة، مثلما جاء في مسلسل (لام شمسية) بتصديه لقضية التحرش الجنسي.
أننا لواستطعنا إنتاج مسلسل واحد – على الأقل – كل سنتين من نوعية الأعمال التاريخية الكبيرة، سيكون ذلك أثره كبيرا على الحراك الدرامي المصري، والذي بالضرورة يرتبط بالحراك الاجتماعي السياسي، وربما يكون هذا سببا في تحسين الصورة، وعودة الريادة التي ننشدها.
نحن بحاجة إلى ملحمة رائعة يختلط فيها التاريخي بالاجتماعي مع قدر من الحس الرومانسي يمس جوهر الشخصية المصرية في تجلياتها المبدعة، وانسجامها مع مفردات الحياة عبر أزمنة مختلفة، فضلا عن تقديم اللون الاجتماعي الذي يعالج كثير من التشوهات ويخترق الأسوار العالية والأسلاك الشائكة حول العادات والتقاليد من قلب الصعيد والأرياف والحارة الشعبية.


أسرى الأفكار السلبية
نحن في غالبية أعمالنا نستقي أفكارنا من نفس المعين التقليدي القديم، ونظل أسرى الأفكار السلبية التي تذهب بنا لعوالم المخدرات وسرقة المليارت، وحتى حالات الرومانسية بين الولد والبت أصبحت ممجوجة في جو العشوائية والعنف والفوضى، وكأن الغالبية العظمى قد عجزت عن تغير ملعب الأفكار.
وإذا كنا نحب هذا البلد ونتمنى لها مستقبل مبشر، فعلينا تقديم حلول لكثير من المشكلات التي تعوق حركة المستقبل من رحم الفن، ومنه (الدراما) التفزيونية، ويكون فكرنا في الدراما خارج الصندوق، حتى نحفز الناس على التفكير خارجه.
أما غير ذلك فإنه يعني قدرتنا على صنع مستقبل هذا الوطن أو أننا لسنا على قدر اللحظة الراهنة، وبالتالي نجلس على كرسي بعيدا عن المشهد، لأننا في معركة مع الذات، ولايلزمنا أن نعيش عصرا مخمليا ينتمى لأزمنة سابقة، بل لدينا تهديد ووعيد وإرهاب واضح يخاصم تأكيد الهوية والحث على التنمية.
للاسف الشديد فإن غالبية أعمال (الدراميا) الحالية تحكمها عناصر الفهلوة والأحكام المطلقة على مستوى المعالجة المباشرة لكثير من القضايا التي تضرب عرض الحائط بالعادات والتقاليد العريقة، تلك التي ترسخت في باطن التربة المصرية من آلاف السنين، وصنع الأجداد على صخرتها المتينة أعظم حضارة في التاريخ أفسدها الأحفاد دراميا.
المحطات الفضائية كثيرة أصبحت عبارة عن معدة جائعة تبحث طعام جيد وطازج ومفيد للصحة العامة ومنها العقل، لماذا إذن نصر على أن نقدم لها وجبات الـ “جانكفوود” بتوابله الحارقة للقيمة والمعنى، خاصة أننا نعيش مرحلة تعد من أخطر مراحل تاريخ مصر الحديث بين مطرقة وسندان الإرهاب والعنف والعشوائية.
وهو مايجبرنا رغما عنا بأن نقدم له الدعم المادي الكافي، تماما كما ندعم الجندي الرابض على خط النار لحماية الحدود، وليس هذا الدعم للدراما نوعا من الترف، بل لأنها تحمي الجبهة الداخلية بالمثل النبيلة التي تجنبا الانزلاق نحو حافة الهاوية.
أقولها بصرخة مدوية: هل تريدون فنا جيدا حقا؟، وهل ترغبون في بناء مجتمع سليم؟
عليكم جميعا إذن ودون استثناء طرف من اللعبة ألاتكتفوا بدعم معنوي ، بل ارصدوا ميزانية لاتكلفكم سوى ثمن طائرة أو دباباتين، كي نغدو مقاتلين عن كسب في قلب معركة الدفاع عن الإنسان المصري، والحفاظ على روحه الشرقية وهويته العربية والدينية.


الفن الجيد أمضى سلاح
فالفن الجيد صار أمضى سلاح لتحقيق الحلم القومي الكبير، ومصر لديها كتاب جيدون إلى جانب فنانين كبار ومخرجين مبدعين ينقصهم فقط دعم مادي معقول كي يجنبهم الوقوع في بحيرة آسنة من اليأس والإحباط والعشوئية.
ولننظر إلى أمريكا التي صنعت أسطورتها العظمى من قلب إبداع هوليود، وكذا الهند ذلك البلد النامي الذي خرج من بوتقة التخلف الاقتصادي على بساط السينما، وقدمها للعالم كدولة متحضرة على فقرها حتى وصلت إلى مصاف الدول الكبرى.
وأخيرا أضم صوتي إلى صوت (الدكتور إبراهيم أبو ذكري) رئيس إتحاد المنتجين العرب في قوله: نحن جميعا نتحمل المسئولية كمنتجين ومبدعين ومسئولين عن (الدراما) والإعلام بالعالم العربي، ونحن نبدى أسفنا نيابة عن بعض المنتجين في القطاع الخاص، رغم قدرتهم علي الانتاج المتميز فقد اتجهوا في إنتاجهم الى الإسفاف والعنف والرذيلة، جريا وراء الإعلانات وتحت مقولة غير مقنعة، وبعيدة عن واقعنا العربي وهي (حرية الإبداع والواقعية).
كما أن المسئولين عن البث لن نعفيهم من المسئولية فهم أيضا مسئولين عن بث هذه المواد التي أفقدت الشباب الثقة في مجتمعها وأرضها ووطنها، ولأن قنوات البث التليفزيوني تستطيع وضع ضوابط للمنتجين ونوعية الانتاج.
فالمنتجين تنتج ما تريده قنوات البث، وأيضا الجميع يعلم أن ما يقدم علي الشاشات العربية من الإنتاج المدبلج لمجتمعات بها سموم أخلاقية أو إنتاج مصري مقلد بغباء ودخيل علي مجتمعنا ساهم بشكل فعال في تدني الذوق والأخلاق.
ومن هنا نطالب كل القائمين علي البث التليفزيوني أن يقفوا وقفة رجل واحد في مثل هذه الأوقات العصيبة بشفافية وتجرد ويضعوا خطاب إعلاميا جديد وبناء جاد، قومي عربي يهتم بفحوي ما يقدمونه للشباب علي شاشاتهم من مواد درامية أو برامجية، وبعودة الأغنية الوطنية والعاطفية الراقية علي لشاشاتهم التي تمس القلوب وتعبر عن الوجدان الحقيقي للمواطن في مصر والعالم العربي.
ومن هنا أؤكد: لا توجد أزمة في صناعة (الدراما) المصرية، في إمكانات بالقطاع الخاص أو العام، بل الأزمة الحقيقية موجودة في القطاعات الإنتاجية الثلاثة التي بها (أزمة ادارة – أزمة توزيع – أزمة علاقات عامة – أزمة عدم فهم بما يقدمونه للسوق العربي ومتطلباته الحقيقية) فضلا عن أزمة علاقتهم مع العالم العربي وهو السوق الحقيقي للدراما المصرية.


عشرات الإدارات الرقابية
وأيضا الأزمة الرسمية في اختيار أصحاب القرار في الانتاج في القطاعات الثلاثة وهم يتحركون كموظفين والجهد المبذول الذي نراه منهم هو جهدهم في الاحتفاظ علي أماكنهم ولشعورهم كموظفين وفوقهم عشرات الإدارات الرقابية، وذلك بهدف إنتاج درامي يليق بمصر الجديدة.
ولن أحمل القطاعات الثلاثة المسئولية كاملة علي فشل وخروج القطاع العام من منظومة الإنتاج التليفزيوني العربي بعد تألقها لعقود، وقلة عرض منتجاتها الهزيلة علي الشاشات العربية فأيضا بعض القوانيين والقرارات الإدارية المصرية الطاردة للمستثمرين والمنتجين العرب الراغبين في الإنتاج على أرض مصر، والعوده إلى الانتاج المشترك مع القطاع العام هي جزء هام من هذا الفشل.
عند هذا الحد نتوقف عند ضرورة أن تنتبه الشركات المنتجة التي ينبغي أن تدخل الحلبة، ولا يقتصر الأمر على الشركة (المتحدة) وحدها، بعد أن فشلت في تحقيق التوازن المطلوب بين الترفيه وجدية معالجة القضايا على النحو الذي يمكنه إحداث تغيير حقيقي في المجتمع بعد أن ضاق ذرعا بأنتاج هزيل ينال من مكانة مصر، بحيث يشكل إنتاجا مشروعا قوميا يصب في مصلحة البلاد.