

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
مما لاشك فيه أن الفضائيات العربية أصبحت حالة خاصة وفريدة فى تطور مسيرة الإعلام العربى، منذ عرف العرب الصحافة فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حتى أنه يمكن القول براحة تامة، بأن مجمل التطورات التى أحدثها ظهور الفضائيات العربية فى الشارع العربىوفى وسائل الإعلام التقليدية منذ أوائل العقد الأخير من القرن الماضى يعادل مجمل التطورات التى شهدها الإعلام العربى منذ ظهوره، خاصة في مجال (الدراما).
ولعل هذا النمو المطرد لدور (الدراما) في حياتنا المعاصرة هو ما أكد تلك الحقائق، حتى بات لمفهوم (الدراما) دور محوري في حياتنا المعاصرة وسياقاتها الثقافية المجتمعية، حيث يعتبرها أغلب علماء علم الاجتماع المعرفي (ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني)، ولنا في موسم رمضان 2025، العبرة والمثل,
ومع تجسد الأحداث اليومية التي تشكل النواة الأساسية للتاريخ الإنساني، أصبح سرد (الدراما) التليفزيونى هو البديل المثالي لتسجيل حركة التاريخ القادمة من رحم تلك الأحداث، جراء تطور صناعة الفعل الدرامي، وتأثيرها كأداة للتغيير الاجتماعي.
وتأكيدا لنبوءة أرسطو في كتاب الشعر: التي تقول (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، والتي أدركها (الرئيس عبد الفتاح السيسي)، انطلاقا من وعيه بخطورة اللحظة الحالية، لذا أطلق ناقوس الخطر لإيقاظ الضمير، وتحويل الدفة نحو (الدراما) كفن راق يخطو نحو آفاق جديدة تعلي من شأن القيمة والمعنى.
وخاطب صناع الفن بوجه عام – قبل تسع سنوات – قائلا: (والله ربنا حاسيبكم) وربما كان ذلك مرده أننا عشنا – وقتها – موسما دراميا في رمضان، يعد الأسوأ من ناحية الموضوعات التي غرقت في براثن العنف والغضب، وسفك الدماء وقتل الآباء وسب الأمهات، وسرقة المليارت، والذهاب بالخيال التجاري الواهي إلى داخل قصور فخمة.
أومقاعد وثيرة ومخادع مخملية لاتدنو من قضايا البسطاء والمعذبين في الأرض إلا على جناح العشوائيات، وأوكار المخدرات في تكرار ممل يخاصم جماليات الفن في جوهره الأصيل، والوطنية المفقودة في حربنا الحالية ضد الإرهاب، ويصيب الناس في نهاية المطاف بالأذي، ولعل شيئا من هذا القبيل شاهدناه في دراما رمضان 2025، رغم نجاح هذا الموسم.

طوق النجاة والخلاص
لأجل كل مامضى نفتح هذا الملف الشائك بتفاصيله المرعبة حتى تكون (الدراما) طوق النجاة والخلاص، وتجسد لنا ملحمة رد الاعتبار للشاشة الفضية المصرية، التي كانت يوما صاحبة الريادة، ومنبرا حرا للتنوير، ووسيلة نظيفة للمتعة والتسلية والتسرية التي لاتخدش الحياء في جلها، بقدر ما تجنح نحو آفاق تربوية تثقيفية بوعى من ضمير.
وأظن أن الحل الجذري لأجل أن تكون (الدراما) أداة فعالة في التغيير الاجتماعي، يكفل لنا الانطلاق الحقيقي نحو التصحيح، بل سيتيح الفرص لإنتاج فني على مستوى عالي من الجودة التي من شأنها استعادة ريادة مصر الفنية والإعلامية على النحو المطلوب.
ولعلي هنا أبني وجهة نظري على الدروس المستفادة من موسم رمضان 2025، فقد احتوى هذا الموسم على عدد من المسلسلات ذات الـ (15 حلقة) مثل (النص، الشرنقة، قلبي ومفتاحه، إخواتي، ولاد الشمس، 80 باكو، جودر 2، الأميرة، لام شمسية، قهوة المحطة، عايشة الدرو، حسبة عمري، منتهي الصلاحية)، وغيرها القليل من نوعية الـ 30 حلقة.
وهذه المسلسلات جميعها – من وجهة نظري الشخصية – استطاعت أن تجعل من موسم رمضان 2025 موسما من أفضل المواسم خلال العشر سنوات الأخيرة، من حيث التنوع مابين الاجتماعي والكوميدي، والإثارة والتشويق، فضلا عن نقائها من شوائب العنف والقسوة والفوضى والعشواءية التي اعترت المشهد الدرامي المصري.
وأهم ما تميز به هذا الموسم هو براعة الكتابة، وروعة الأداء لدي الممثلين والمخرجين من أجيال الشباب المبشر، وهو أمر جاء بالمصادفة دون تخطيط، وما يؤكد ذلك أن نفس الموسم احتوى على مسلسلات رديئة على مستوى الشكل والمضون، ومن ثم فقد أساءت لهذا الموسم الجاد حقا.
وأقولها بصراحة: لابد من خطة محكمة الآن، فنحن بحاجة ماسة إلى قرار سيادي من جانب رأس الدولة، يلزم المجلس الوطني للإعلام في شكله الجديد بحل مشاكل (الدراما) التلفزيونية والإعلام بشكل عام، حتى نتمكن من استعادة التوازن بين طرفي المعادلة (القطاع العام – القطاع الخاص).
ففي الماضي كانت هناك أعمال ضخمة لايقوى على الاقتراب منها القطاع الخاص، على مستوى التاريخي والاجتماعي، بينما الإنتاج الخاص كان له دور في تقديم الأجود من أعمال أخري، لكن الخلل الذي أصاب بعض مسارات الإنتاج الدرامي وترك الساحة نهبا لشركات واحدة بعينها هو من خلف حالة التردي شكلا ومضمونا، وبالتالي تأثرت البنية الإبداعية بمفاهيم السوق الجديدة.


ضخ حزمة من الأموال
ومن هنا لابد من ضخ حزمة من الأموال الآن للتوجه نحو إنتاج أعمال (الدراما) الكبيرة والضخمة ذات الطابع القومي، حتى نكسر من حدة سيطرة الإنتاج التجاري البحت، ولا نخشى من هذا فسوف يقابل هذا الإنتاج توزيعا جيدا في السوق العربية الواعدة حاليا، ونستغني عن مشاركات خارجية تنال من فننا العريق.
وفي الوقت نفسه نواجه تدني مستوى إنتاج (الدراما) بفعل سيطرة الإعلانات على صناعة الفيديو، والتي بدورها تختار الأعمال على هواها وتحدد طبيعتها، وتفرض نجوم بعينهم.
ولابد من التأكيد على ضرور إنتاج دراما ذات طابع قومي الآن في ظل حالة التقارب السياسي العربي، من خلال مبادرات لدعم مصر، خاصة ماقام به المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – وحكام الإمارات والكويت والبحرين، وغيرهم ممن كانوا يرون في مصر درة الشرق العربي وأكبر ساحة للحرية.
وهنا أشير إلى أن التوجه العروبي قادم على الطريق، وعندما قال الرئيس السيسي من تعليقات على شكل الدراما التي تسيئ للأسرة والمجتمع، فهو قد أصاب كبد الحقيقة، لكن الواقع العملي يلزم الحكومة نفسها بالحساب قبل صناع الدراما، فما الذي يمنع من أن تخصص عدة مليارات من الجنيات لمواسم درامية قادمة تتمتع بالجودة والرسائل الإيجابية، لتحقيق هدف الرئيس في التأثير الاجتماعي الذي يمكن أن تحدثه الدراما.
ولاخوف من الخسائر، فإن صناعة الدراما كانت ومازلت وستظل صناعة اقتصادية مربحة شريطة أن تعنى بالقيمة، كما أن الفن والثقافة يمكن أن يكونا مصدر دخل مهم جدا، إذا كانا في إطار من الجدية الإبداعية، وتاريخ الدراما المصرية يشهد على ما أقواله.
فلو عدنا إلى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، سوف نلحظ ذلك الرواج على مستوى الربحية والمضمون، وهو ما يؤكد حقيقة أن الفن الجيد يفرض مضمونا جيدا على حركة الحياة المعاصرة، قبل أن تختل المعادلة ويتحكم الإنتاج الخاص، ويعطي صلاحيات للإعلانات والنجوم في اختيار (الكاتب – المخرج) تحت سلاح (قانون السوق).

إعادة الاعتبار للكاتب والمخرج
إذن نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار للكاتب والمخرج من جديد، باعتبارهما أهم القائمين على العملية الإبداعية، وكفى عبثا بالدراما وخلط الأوراق جراء تحكم (الإعلانات والنجم)، ويكفي أن أسوق مثالا واحدا بالنجم الكبير (يحيى الفخراني) الذي لايخضع لتلك المعاييرالتجارية، بل يعنى بالقيمة والمعنى، في وقت يتربع فيه على عرش الدراما الجادة والمتميزة، حتى ولو لم يكن الأكثر جماهيرية في بعض الأحيان.
صحيح أن لدى بعض نجومنا مشاعر وطنية تبدو صادقة، لكن هناك حالة (شيزوفرينيا) لدى البعض ممن يبالغون في في نسب مشهدات ملسلسلاتهم، خاصة في موسم رمضان 2025، بينما الناتج العام من إبداعهم يندرج تحت تصنيف الرديئ أوالمتدني، وربما يركن في ذلك إلى أن الظرف العام كله سيئ.
والحل من وجهة نظري لن يتأتى إلا بإصلاح كامل ومن الجذور لمؤسساتنا وأنفسنا مع إرادة سياسية تعى المخاطر التي تواجه المستقبل، خاصة أن فترة حكم (مبارك) قضت على كل شيئ وحدث نوعا من الخراب الشامل، عندما ضرب العقل المصري والقضاء على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية.
وفي هذا الصدد أرى أن الأعمالية الدرامية بالأساس لابد تحمل رسالة مهمة تجاه المجتمع والناس – على غرار بعض مسلسلات الـ 15 حلقة التي ذكرتها من قبل -ومؤكد أنها لابد أن تكون من صنع خيال الكتاب بالدرجة الأولى، فالكاتب هو الضلع الأكبر في الفعل الدرامي برمته، وهو حر فيما يكتب وما يختار، ولعل الموضوعات الإنسانية هى الأكثر رواجا الآن.
وهى الأقدر على التعبير الحقيقي عن مشاكل المجتمع المصري إذا كانت على مستوى عال من الإبداع الجاد ، وليس على مايقدم الآن بحالة من السوء والتردي على حساب الموضوعات التاريخية والكوميدية الراقية.

تحقيق رسالة الفن
تكمن المشكلة الرئيسية في الإسفاف الذي جرفنا نحو هوة سحيقة من الابتذال بصورة أصبح فيها جزء من الدراما المصرية يسيئ إلى مصر، والإنسان المصري، عندما فشل في تحقيق رسالة الفن الذي لايضر بالناس بممارسات عجيبة لا يقبلها عقل واع أو منطق سليم، كما جاء في كثير من المسلسلات في المواسم العشرة السابقة.
بعدما تحولت (الدراما) إلى مصدر ربح خرافي مثل المخدرات لمجموعة من الناس، وهؤلاء الصناع للأسف يقدمونها على أنها سلعة، على فسادها ورداءة مستواها، بعد كانت في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وجه رائع لمصر سواء كانت خارج الوطن أو بداخله على مستوى تقديم القضايا الحياتية المهمة.
ومن هنا يأتي دور الدولة في دعم الحركة الدرامية من الأهمية بمكان، باعتبارها تواكب كل تحركات المجتمع نحو تحقيق حلمه الكبير في كافة ميادين الحياة، خاصة في ظل المد القومي العربي الحالي، وخاصة أن هنالك محاولات تحاول النيل من فنوننا التي كانت القدوة والمثل في نفعيل دور القوى الناعمة.
ويؤسفني القول بأنه لا توجد ضمن آلاف الأعمال الدرامية المصرية الفائتة عملا مهما عن حرب أكتوبر التي تجسد أسطورة عالمية في سجل المحارب المصري في العصر الحديث، ودعني أقول لك كيف كان حال (الدراما) في مراحل ستينات وسبعينات وثمانينيات القرن الماضي.
كانت هناك جهة مهمة هى (قطاع الإنتاج) التابع لتليفزيون الدولة، والذي كان يقوم بتقديم أعمال راقية، وبغض النظر عن كونه عملا كبيرا أو صغيرا يصعب أن يكون لأي منها أثر سلبي على المجتمع كما يحدث الآن.
وكانت المحصلة النهائية – آنذاك – أن قطاع الإنتاج كان لديه على الأقل عملين أو ثلاثة لمبدعين من أمثال (أسامة أنور عكاشة – يسري الجندي – بشير الديك – يحيى العلمي – محمد فاضل) وغيرهم، وكلها قامات مصرية أبدعت في شأن يهم الحياة المصرية في جلها على جناح الدراما الجيدة المستمدة من الواقع الاجتماعي المعاش، مثل (ليالي الحلمية، هجمة مرتدة، العائدون).
فضلا عن عرض سير بطولات الإنسان المصري في السلم والحرب للجيش والشرطة، وقد تميز في هذا اللون مسلسلات (الاختيار، هجمة مرتدة، العائدون) وغيرها من الأعمال التي كانت تركز على الهوية وتوعية الشباب ببطولات حقيقية للأجداد يمكن أن توضح معالم الطرق الصعب، وتزرع الانتماء والأمل في نفوس الأجيال الحالية.