
بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
استطاعت (مريم ناعوم) أن تلقى حجرا قويا في بركة الدراما الراكدة من خلال حبكة درامية غاية في الإتقان عبر مسلسلها البديع (لام شمسية)، ليس على مستوى الجرأة في التناول، بل على مستوى الطرح الذي جانبه الصواب في عرض المسكوت عنه في قضية شائكة عانى منها مجتمعنا المصري والعربي طوال سنوات طويلة دون أن يتحرك ساكنا، رغم أن التحرش ينتهك أجساد فلذات أكبادنا من الأطفال.
مسلسل (لام شمسية) نكأ جرحا غائرا في الذاكرة العربية، عندما فجر قضية تغاضى أهالي الضحايا، جراء الخوف من الفضيحة، في ظل التحرش الجنسي بالطفل، وهو من أهم الظواهر القائمة في كل المجتمعات سواء كانت شرقية أم غربية، نامية أو متحضرة، حتى وإن اختلف مدى انتشار تلك الظاهرة وتفاقمها.
السيناريو الحوار في (لام شمسية) استطاعا أن يغوصا بنا في عمق القضية التي كان البعض منها مرتبطا بالوازع الديني والبعض الآخر بثقافة المجتمع السائدة وعاداته وتقاليده، وعلى الرغم من ذلك كله فإن المجتمعات العربية بدأت مؤخرا الاهتمام بتلك الظاهرة، حيث بدأت تنتبه إلى خطورة التحرش الجنسي ضد الأطفال علي مجتمعاتها.
وقد اتضحت ردود الأفعال المجتمعية بالتباين ما بين الإصرار علي الإنكار كونها ظاهره لا تستحق كل الاهتمام والعمل على مستوى التغيير الاجتماعي ونشر الوعي بين فئات المجتمع المتباينة، انتهاء بالتحرك الفعلي لمواجهتها قانونيا وتشريعيا، وهو ما برع في عرضه مسلسل لام شمسية بوقعية حتى وإن تبدو مؤلمة في ظاهرها، لكنها في باطنها حملت رسائل إيجابية تجاه هذا الفحش الأخلاقي المستنكر.
ويمكن القول أن هذه الظاهرة باتت تدق ناقوس الخطر خاصة مع انتشارها في صعيد مصر الذي لم يكن يعرف فيما سبق مثل هذه الظواهر بل تعتبر من الظواهر الدخيلة على ثقافتنا العربية وقيمنا العريقة وديننا الإسلامي الحنيف، وهو ما يبدو قد لفت انتباه صناع العمل إلى ضرورة التصدي للظاهرة القديم الحديثة، والطارئة على مجتمعنا.

ظاهره التحرش بالأطفال
حاولت الدراما بين الحين والآخر التعرض لظاهرة (التحرش الجنسي) بشكل متوار في محاولة جاهدة في أن تقدم تفسيرا وافيا ومتكاملا لظاهرة التحرش ضد الأطفال من جميع الجوانب الاجتماعية والثقافية.
علاوة عن مناقشة الدوافع التي أدت إلى انتشار ظاهره التحرش بالأطفال، والكبار، لكن عادة ما كانت تأتي تلك المحاولات بعد وقوع ضحايا، كما حدث في مسلسل (ساعته وتاريخه) في عرضه لقضية (ميادة) فتاة جامعة المنصورة التي قتلت غيلة بعد تعرضها للتحرش.
لكنها تلك المحاولات – وإن صحت بعض الشيء – لم تتوصل إلى مجموعة من النتائج والتوصيات التي قد تسهم في الحد من انتشارها، مثل (لام شمسية)، خاصة حين أصدرت المحكمة حكما بالمؤبد على (وسام) الأستاذ الجامعي بعد ثبوت تحرشه، ثم قام القاضي بتوجيه كلمة للأسر في البيوت بضرورة مراقبة أطفالهم، ونشر الوعي بين كل فئات المجتمع.
لقد وضعنا مسلسل (لام شمسية) أمام أنفسنا، على جناح عرض التفاصيل الدقيقية في القضية وبحوار ربما يكون صادما، لكنه أصاب كبد الحقيقة في صورة أداء بطولي من جانب الممثلين (محمد شاهين، أمينة خليل، أحمد السعدني، يسرا اللوزي، صفاء الطوخي، فاتن سعيد، الطفل علي البيلي)، الذين تباروا جميعا في تقديم مباراة من الأداء الاحترافي القوي في تأثيره على الجمهور.
(لام شمسية) سلط أضواءا كاشفة على الحقيقة المرة في حياتنا، وحطم صخرة الصمت عندما اعتمد على نص جيد لـ (مريم ناعوم)، وورشة (سرد) باعتبار أن قضيه التحرش الجنسي ضد الأطفال من أهم القضايا التى يجب الاهتمام بها، نظرا لكثرة تعرض الأطفال لها وينبغى توعية الأبناء ليكون بمنأى عن هذه المخاطر والوقاية خير من العلاج.
ومن هنا نجح (لام شمسية) في تسليط الضوء على كواليس الواقع المرير، الذي كثيرا ما تعجز ألسنتنا عن البوح به، سواء أمام القريب أو الغريب، وربما تبدو لنا حدوتة صعبة المراس والنقاش في مجتمعاتنا العربية المنغلقة، والتي تجد المرارة والغصة والخجل المبطن بالخوف في الاستماع لتلك الموضوعات بصورتها العادية، لكن هذا المسلسل كان كاشفا للمسكوت عنه.
نعم غاص مسلسل (لام شمسية) في هذا الموضوع وتطرق إلى لب القضية سواء كان الضحية طفلا وذكرا، ومن عائلة ميسورة الحال، ويتلقي تعليمه في مدرسة (انترناشوينال) ويمارس العديد من الأنشطة سواء ثقافية، أو رياضية، وكل أقاربه ومعارف عائلته من الشخصيات المحترمة والمستقرة ماديا وعاطفيا.

الكشف عن الخط الدرامي
بمعنى أدق (لام شمسية) أغلق كل المبررات، التي سيضعها المشاهدون في إيجاد سبب للفعل الفج، فعل (التحرش)، فقد قام صناع المسلسل باختيار أصعب الخيارات المتاحة، وهى الكشف عن الخط الدرامي الرئيسي للعمل في الحلقة الأولى دون الحاجة للمط أو التمهيد، وهذا الخيار جعل المسلسل أشبه بمباراة كرة قدم تقام يوميا، بين الممثلين والإخراج والسيناريو والحوار الصادم في كل حالاته.
المسلسل أرغمنا على صناعة حالات كثيرة من الجدل، وإصدار الأحكام اليومية، وجعلنا نشك في مدعية القضية (نيللي) بأنها قد تكون مصابة بهلاوس، أو لديها مرض نفسي، أو غيره، وكذلك إتقان الفنان (محمد شاهين) دور (وسام)، وكأنه مرسوم عليه، فتلك الشخصية بأبعادها المادية والمعنوية، وتصميم ملابسها، وأسلوب حديثها؛ تجعلك تبعد كل الشكوك عنها تماما.
وضعنا صناع (لام شمسية) أمام مرآة الواقع المر لمواجهة تقاعسنا وتخاذلنا مع تلك المواضيع شديدة الحساسية والخطورة، في ظل أننا ننسى خوفنا من صورتنا أمام المجتمع، لإيجاد حل لتلك المعضلة، ونقوم بدون أن نشعر بفعل (اللام الشمسية) في أي كلمة في لغتنا العربية المفعمة بالتورية.
مشاهد كثيرة صدمتنا لكنها كانت بمثابة صرخة مدوية في وجه المتحرشين، استهدفت بالضرورة تجديد دور منظمات المجتمع المدنى فى توعية الأطفال ضد التحرش الجنسي، الأدوات والأساليب التى تستخدمها منظمات المجتمع المدنى فى توعية الأطفال ضد التحرش الجنسي، تحديد المعوقات والمقترحات.
براعة أداء الممثلين مع صورة واقعية غاية في الكشف من جانب المخرج (كريم الشناوي)، أذهلتنا ووجعتنا، وأبكتنا كثيرا، لكنها جاءت بمبضع جراح ماهر من خلال سيناريو مكتوب بحبر القلب المتعب، ساهم في تسليط نوع من الضوء الساطع والكاشف، ليقدموا لنا مسلسل متكامل الأركان على مستوى الشكل والمضمون.
أخد البعض على كثرة الصمت الذي اعترى بعض مشاهد (لام شمسية)، واعتبروه نوعا من الملل، لكني أراه في الواقع أضاف أبعاد أخرى لمجمل القضية، خاصة أداء (يسرا اللوزي) في شخصية (رباب)، الذي لم يكن رتيبا على الإطلاق، بل على العكس كان صادقا فيما يتعلق بكسر جدار العائلة، وهى المريضة نفسيا التي كانت تدرك وحشية الزوج (محمد شاهين) في شخصية (وسام).

(أمينة خليل).. ممثلة من العيار الثقيل
لأول مرة أري (أمينة خليل) ممثلة من العيار الثقيل، وقد ساعدها جمود وجهها وتجهمه الواضح وبشكل متعمد، لكنها امتلك القدرة على ترجمة المشاعر المتضاربة في شخصيتها عندما كشفت أنها إحدى ضحايا التحرش في الصغر، وهو ما أضفى نوعا من الصدق، في ارتعاشها، واهتزازها النفسي وتذكرها عبر (الفلاش باك) مواقف متفرقة بين الخوف والرهبة وغيرها من مشاعر وصلتنا بلغة جسد فائقة الجودة.

احترافية (محمد شاهين)
أبهرنا (محمد شاهين) بأداء احترافي بلغ قمته في (لام شمسية) ليثبت أنه ممثل ناضج استوى على مر التجارب والأيام، فقد استخدم لغة جسد غاية في الإتقان بأسلوب المراوغة، وتبلد الإحساس والثبات الانفعالي، النابع من أدراك دفين في أهمية استخدام أساليب البرود والضحك الخبيث، والتحدي في إثبات براءته المزعومة.
ولقد أوضح الدور أن صورة الفنان محمد شاهين، خلفيتها مجموعة من الأقنعة، مما يشير إلى التلون وإظهار أكثر من وجه، وهو ما يتماشى مع شخصيته التي اتضحت من الحلقة الأولى، بينما خلفية صورة الفنانة (صفاء الطوخي) التي تقوم بدور والدته، وبها (مفاتيح أقفال) فتشير إلى امتلاكها مفاتيح شخصية ابنها بالكامل.
ظل (محمد شاهين) طوال الحلقات محافظا على أداء قوي لا تلين معه منحنيات الدراما التي التي صاغتها (مريم ناعوم) ببلاغة حبر الكتابة التي تكشف عورات النفس البشرية التواقة إلى الشذوذ القاتل الذي خيم على نفس (وسام)، الذي يعاني اضطربا نفسيا لم يظهره، إلا بعد الحكم عليه حيث راح في بكاء هيستريا خوفا على ابنته المصدومة (زينة) وأمه المكلومة (نادية).

(أحمد السعدني) امتلك زمام الشخصية
أما (أحمد السعدني) فهذا قصة أخرى في أداء شخصية (طارق)، فقد امتلك زمام الشخصية من أول حلقة حتى النهاية، وأظهر أحساسيس ومشاعر تتفاوت بين الرعونة والهدوء والصمت المعبر، عندما تيقن من تحرش وسام لابنه (يوسف)، كنا نسمع بنبض قلبه المتصاعد، ونلمح وجها قادر على التعبير في أصعب المواقف.
(أحمد السعدني) بلغ قمة النضج في الأداء، ببساطة أسلوبه السهل الممتنع في التمثيل، وهو ما جعله عملاقا في أدائه المتأرجح بين الخوف على ابنه (يوسف) وإحساسه بالندم على تورطه في علاقة مع (نهال/ ثراء جبيل) التي برعت هى الأخرى في أداء يختلف عن أدوارها السابقة أو الحالية في دراما رمضان 2025.

الطفل (علي البيلي).. مفاجأة المسلسل
المفاجأة الحقيقية كانت مع اختتام العمل بمشهد عيد ميلاد الطفل (يوسف/ علي البيلي)، الذي أبدا نوعا من الجدية في الأداء طوال الأحداث، ما يشير إلى موهبة قادرة على منافسة الكبار في الأداء، من خلال مشاهد شروده، وتقاعسه عن البوح، وانكسار الرقبة بإيماءت معبرة، ومحاولات الهروب من فعل شائن لايقوى على مواجته.
.لعبت عناصر (الموسيقى، والإضاءة) دورا مهما في جودة الأداء وفعالية الصورة بمواطن من الخوف والفزع والصمت والسكون، وحتى في الحركة المحفزة لانتقام (طارق) من (وسام) صديق عمره الذي حاول معه أن يثنيه عن القضية بحم الصداقة، لكن رد فعله الصامت في البداية، وانفعاله عليه وطرده جاء في مكانه الصحيح دون زيادة أو نقصان.
خلاصة القول أن مسلسل (لام شمسية)، جاء بمثابة مسطرة يمكن القياس عليها في جودة الدراما الاجتماعية التي افتقدناها طويلا في دراماتنا المصرية، عندما غرقت في براثن الشر والعنف والقتل، والذهاب إلى مناطق غرائبية في تركيبة المجتمع المصري، بانحراف عن المسا الصحيح.
ولقد استحق مسلسل (لام شمسية) أن يعتلي قمة الدراما المصرية في النصف الثاني من رمضان 2025، جنبا إلى جنب مع تحفة (عبد الرحيم كمال) في (قهوة المحطة) فكلا العملين اعتمدا على نص بالغ الدقة والعذوبة في تناول قضايا المجتمع بتشريح احترافي، يؤكد أن الدراما الاجتماعية ماتزال تلعب أدوارا مهما في حياتنا.
تحية تقدير واحترام لصناع (لام شمسية) الذين صدمونا وأبكونا، لكنهم نجحوا في التنويه بخطورة قضية تحرش الأطفال ببراعة مطلقة على مستوى السيناريو الإخراج والتمثيل، وهى غاية يصعب إدراكها في هذا الزمن الصعب، من فرط عشوائية درامانا التي كانت يوما شاهدا حيا على سلامة وسماحة المجتمع المصري المشحون بالشجن المحبب.