
بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
كنت أقضى معظم ليالي (رمضان) في القاهرة بعيدا عن أهلي وبعيدا عن خطيبتى التي أحببتها للغاية ..في أحد الأيام سهرنا معا لنحتفل بمولد برنامج جديد لي.. ستذيعه هذه المذيعه التي كانت تشرفني باسم الحب..
وكانت الصدمة..أذيع البرنامج باسم شخص آخر هو (خليل سجاع).. وقتها بصقت خطيبتى علي الراديو.. وبكت بحرقة شديدة.. حاولت تخفيف الصدمة معقبا بابتسامة، وكان رمضان في وسط العائلة له شكل آخر
أحكي لي: بتفطر ازاي.. أكيد عايش علي أكل المطاعم، كدت أقول لها أنني لا أستطيع حتي أن أعيش علي السندوتشات.. لأنني كنت مفلسا بشكل دائم.. حتي أنني كنت أقف على كوبري المشاه في باب اللوق بالساعات.. وعيني علي كافتيريا سوق الحميديه.. حتي ألمح أي شخص أعرفه متجها إلي الكافيتريا لأنزل من علي السلالم متثاقلا.. وأدخل الكافيتريا لأجلس معه.
تشرب ايه يا إبراهيم؟
والله ما اقدر..شربت النهارده بعد الفطار ييجي 50 شاي.. في الوقت الذي لم أشرب نقطة واحدة منه ..
دعيت يوما لتناول إفطار (رمضان) مع مذيعة البرنامج في بيت شقيقتها.. فجأة وبلا مقدمات وكأنها تعد لى مفاجأة كريمة قالت لي: علي فكره يا إبراهيم.. محمد ابن اختي هاييجي يفطر عندك بكرة..علشان ماتفطرشي لوحدك.
كانت الصدمة عنيفة.. أن يهبط إلى ضيف من مستوى هذه الشقة..إلى المستوي المنحط الذي أعيش فيه في هذه الحجرة المشتركة بحارة العدوي المتفرعه من شارع زين العابدين بالسيدة زينب.
شوف بقي محمد نفسه في ايه.. واعملهوله.. بطبيعتي لا أستطيع سلق بيضة.. ولا عمل كوب شاي.. عدت إلي المنزل يلفنى الهم والإنكسار.. زكريا كان قد تم استدعاءه كضابط احتياطي في القوات المسلحه.. تعاطف معي شقيقه قائل : و يهمك..لي صديق بالجمعيه التعاونيه.. سأوصيه علي دجاجه يعطيها لي دون أن أقف في الطابور..أقوم بإعدادها مع بطاطس و سلطة..

دجاجه من الجمعية
بعد ساعات من ذهابه عاد سمير عصرا.. يحمل كيسا ورقيا به دجاجه من الجمعية تعتبر في هذا الوقت ثروة قومية.. و بعض الأكياس الأخري المملوءة بالأرز.. والطماطم.. ولوازم السلطة
دخل أحد الطلبة علينا يدعو سمير للصلاة الجماعيه.. يلتفت إلى سمير متسائلا – مش هاتقوم معانا يا إبراهيم.. قلت له – روح انت صلي معاهم و ادعيلي
ذهب سمير يصلي معهم في صالة الشقة.. بينما انشغلت أنا في كتابة بعض حلقات البرامج التي أكتبها لكل إذاعات مصر، حيث كنت أحقق انتشارا رهيبا لم يحدث لأي أحد من قبلي..
كنت قد تنفست الصعداء لأن ابن أخت المذيعه سيتناول إفطار (رمضان) يشرفني أمام خالته وأسرته.. بعد الصلاة انتحوا بسمير جانبا يهمسون – الراجل اللي انت هاتفطر معاه النهارده.. ده كافر والعياذ بالله.. والأكل معاه يعتبر من أشد أنواع الكفر..
ارتفع صوت مناقشتهم لتختلط وتصبح طنينا في أذني وقلبي.. دخل شقيق صديقي إلي الحجرة التي أجلس فيها.. أمسك رأسه في حيرة.. يطيل النظر للدجاجة.. وقراطيس البطاطس.. والطماطم.. بينما أنا أنتظر أن يقول أي شئ لأن الوقت يمر..فجأة..
قام يحمل كل هذه الأشياء.. بعد أن ارتدي ملابسه قائلا – هاروح أفطر عند واحد صاحبي بيصلي.. واخلي مراته تطبخ لنا الفرخة نفطر بيها.. أحسن ما أشيل ذنب بالإفطار مع شخص لايصلي حتى في (رمضان).
و الراجل اللي جاي يفطر معايا النهارده ؟
اتصرف. .
غادر الحجرة حاملا بين يديه.. كل ما أتي به.. وقفت أتابعه في البلكونة الضيقة مفكرا.. حتى غاب عن ناظرى تماما بحمولته الغالية ..
سمعت فجأة صوت أقدام علي السلم تقترب.. ظننت أنه راجع نفسه وعاد.. حتي لا يقتلني بهذا الموقف.. فاجأنى ابن أختها محمد.. واقفا يتطلع الى وجهى المتجهم: مالك يا أستاذ ابراهيم؟
مفيش.. بتعرف تطبخ يا محمد؟
قال لي أنه يجيد الطبخ
كان المغرب قد اقترب.. خرجنا إلي شارع زين العابدين.. أصحاب المحلات يستعدون لإغلاق محلاتهم والكل يتسابق في العودة إلي منزله.. اشتريت بطاطس وطماطم وعدنا للحجرة.. المطبخ ضيق جدا.. ليس به إلا بعض الحلل القديمة الأطباق القذرة..

سكينا لتقشير البطاطس
طلب مني محمد سكينا لتقشير البطاطس فلم أجد.. ولم أجرؤ على طلب أي شئ منهم.. أحضرت له إبرة وابور الجاز.. حيث حاول تقشير البطاطس بها.. حاول إشعال موقد الجاز فلم يستطع.. المؤمنون وضعوا لكفار قريش الماء مكان الجاز.. و الجاز برائحته النفاذة مستقر كعقاب جماعى في زجاجة الزيت..
في محاولة أخيرة شبه يائسة أحضرت بعض الصحف لإشعالها من أجل وضع حلة الزيت عليها حتى نقوم بتحمير البطاطس.. اشتعلت الحلة وأحرقت يد محمد ليصرخ فترتفع قهقهاتهم العميقة داخل حجرة تجمعوا فيها جميعا لتناول طعام الإفطار..
و
يا حسرتك في بلد ما لهاش..
دراع يطبطب فوق ضهرك ضاع اللي فات م العمر بلاش
والشهر عمره ماكان شهرك شارع طويل مليان حواديت
وانت الوحيد اللي مدمع
لا لك صديق ولا ضي
ف بيت
والغربه بين الناس توجع
محتاج لحد يبص عليك يهمس إليك بحنان مالك
في كل ناحيه تبص عنيك
تنده.. تلاقي الليل جالك كوابيس رهيبه في كل مكان
دبابيس على الأرض الخشنه
الآهه خارجة من الوجدان
والأهل لسه بتوحشنا
إوعى تضيع ويا المجهول عافر لحد ما تلقي طريق
لو فيه سكوت لازم هاتقول انك في ضيق محتاج
لصديق
من كتاب (مدد مدد..)
سيرة ذاتية لبلد