رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (محمود حميدة).. الذي جعل التمثيل طقسًا روحيًا

رجلٌ لم يكتفِ بأن يكون نجمًا، بل اختار أن يكون تجربة، سيرة فنية تسير على خطى الكبار

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في عتمة قاعة السينما، حيث لا يُسمع إلا أنفاس المشاهدين وصوت شريط الفيلم المتحرك، يظهر وجهه على الشاشة، ليس مجرد ممثل يؤدي دوره، بل كاهنٌ في محراب الفن، يحفظ أصول الطقس، ويجيد ترتيل المشاهد كما يُرتّل العارف آياته المقدسة.

(محمود حميدة)، رجلٌ لم يكتفِ بأن يكون نجمًا، بل اختار أن يكون تجربة، سيرة فنية تسير على خطى الكبار، وصوتًا ينبثق من أعماق السينما ليظل صداه خالدًا في ذاكرة المشاهدين.

لم يولد (محمود حميدة) في قلب القاهرة، حيث تستيقظ السينما كل صباح، بل جاء من قريته الصغيرة منيل السلطان، بمركز أطفيح في الجيزة، حيث تُحكى الحكايات على المقاهي، وحيث الليل الطويل يُختزل في ضوء فانوس خافت في بيت بسيط.

هناك، بين الحقول الخضراء والطين الذي يلتصق بالأقدام، نما الطفل الذي سيصبح لاحقًا أحد أكثر الوجوه فرادةً في السينما المصرية.

منذ طفولته، كان (محمود حميدة) مولعًا بالحكايات، عاشقًا للكلمات التي تنسج العوالم، لم يكن يحلم بأن يكون طبيبًا أو مهندسًا، بل كان يفتش عن ذاته في القصص، في الوجوه، في العيون التي تخفي خلفها أسرارًا لا تنتهي.

درس الهندسة ثم انتقل إلى التجارة، لكن المسرح ظل عالمه السري، المكان الذي يختبر فيه صوته وروحه، حيث الكلمات تأخذ أبعادًا جديدة، وحيث الإنسان يمكنه أن يكون أي شيء، أي أحد.

في ليالي المسرح الجامعي، حيث يقف الممثلون أمام جمهور صغير، كان يعرف، دون أن يخبر أحدًا، أن مستقبله ليس في الحسابات والأرقام، بل في الشخصيات التي سيسكنها يومًا ما.

لم يكن (محمود حميدة) ممثلًا تقليديًا، لم يبحث عن البطولة السهلة

حين صار التمثيل طقسًا مقدسًا

لم يكن (محمود حميدة) ممثلًا تقليديًا، لم يبحث عن البطولة السهلة، ولا عن الأدوار التي تُكتب على مقاس النجوم.

عندما وقف أمام أحمد زكي في (الامبراطور)، لم يكن وجهًا جديدًا يسعى إلى الاعتراف، بل كان كيانًا متكاملًا، يقف بثبات أمام عملاق مثل زكي دون أن تهتز روحه.

لم يكن منافسًا، بل كان شريكًا في صناعة لحظة سينمائية خالدة، لحظة تحمل في طياتها ملامح فنان يعرف ماذا يريد، ويعرف كيف يأخذ مكانه دون أن يزاحم أحدًا.

في (المصير)، كان (الخليفة المنصور) الذي انتصر على الاسبان فى الاندلس ويدب الضعف فى جيشة وتنتشر الفوضى، وفي “حرب الفراولة” كان المغامر الحالم، وفي (ملك وكتابة) كان الأستاذ الذي يعيد اكتشاف نفسه.

في كل دور، كان هناك سرٌ صغير، نظرة، إيماءة، صمتٌ يقول أكثر مما تقوله الكلمات.

كان (محمود حميدة) يعرف كيف يترك أثرًا، دون أن يحتاج إلى صخب، دون أن يسقط في فخ المبالغة.

كان التمثيل عنده طقسًا، حالة وجدانية، تجربة يخوضها بكل حواسه، فلا يكتفي بأداء الدور، بل يغوص إلى قاع الشخصية، يمسك بالخيط الرفيع بين الحقيقة والخيال، ويعيد تشكيل الملامح بحيث تصبح الشخصية أقرب إلى الحياة نفسها.

لم يكن (ماجد) شريرًا بالصورة التقليدية، لم يكن صاخبًا أو غاضبًا، بل كان هادئًا، متمكنًا

حين يصير الشر فنًا

بعد سنوات من الغياب عن الدراما، عاد محمود حميدة ليجسد شخصية (ماجد) في مسلسل (ولاد الشمس)، مدير دار الأيتام الذي يبدو كالمصلح الحكيم، لكنه في الحقيقة يستغل الأطفال لتحقيق مصالحه.

 لم يكن (ماجد) شريرًا بالصورة التقليدية، لم يكن صاخبًا أو غاضبًا، بل كان هادئًا، متمكنًا، رجلًا يرتدي قناع الخير بإحكام حتى يكاد يصدقه.

لم يكن (محمود حميدة) يؤدي (ماجد)، بل كان يجسده، يعيشه، يجعله حقيقيًا لدرجة تثير القلق.

في كل مشهد، كان يضيف طبقة جديدة، يُظهر لمحة من الإنسانية وسط ظلام الشخصية، ثم يسحبها سريعًا، كأنها مجرد وهم.

(محمود حميدة) لم يكن مجرد ممثل، بل كان مثقفًا موسوعيًا، عاشقًا للسينما بعمق نادر

مجلة الفن السابع

لكن (محمود حميدة) لم يكن مجرد ممثل، بل كان مثقفًا موسوعيًا، عاشقًا للسينما بعمق نادر.

 في وقت كانت الصحافة الفنية تلهث وراء الفضائح، قرر أن يخلق مساحة مختلفة، فأنشأ (الفن السابع)، أول مجلة مصرية تهتم بالسينما بشكل جاد.

اختار الراحل الصحفي الموهوب (محمود الكردوسي) لرئاسة تحرير المجلة، وكان ينفق عليها من ماله الخاص، لأنه كان يؤمن أن السينما لا تُقدّر بالمال، بل بالمعرفة.

 لم تستمر المجلة طويلًا، لكنها بقيت علامة مضيئة، دليلًا على أن هناك من لا يزال يرى الفن رسالة، لا مجرد تجارة.

كان رجلًا يلقي شعر فؤاد حداد بصوتٍ ممتلئ بالحياة

شعر فؤاد حداد

وفي جلساته الخاصة، لم يكن (محمود حميدة) نجمًا يستعرض أدواره، بل كان رجلًا يلقي شعر فؤاد حداد بصوتٍ ممتلئ بالحياة.

كان يحفظ قصائده كأنها تراتيل، يرددها بحب، كأنها جزءٌ من تكوينه، لم يكن الشعر بالنسبة له مجرد كلمات، بل كان ذاكرة، حكاية، لحظة تواصل صافية بينه وبين من يسمعونه.. ربما لهذا السبب، لم يكن يومًا جزءًا من صخب الوسط الفني.

كان بعيدًا عن الضوضاء، منشغلًا بالمعرفة، بالقراءة، بالسينما التي تُصنع بصدق.

 لم يكن يبحث عن الأضواء، بل كانت الأضواء تأتي إليه، لأنه ببساطة، كان نجمًا لا يحتاج إلى بهرجة ليضيء.

هو ذلك النوع من الفنانين الذين لا يكررهم الزمن، الذين يبقون، حتى بعد أن تنطفئ الكاميرا

النجم الذي لا يخفت

اليوم، بعد عقود من العمل، لا يزال (محمود حميدة) يحتفظ بتلك الهالة الخاصة؛ ليس مجرد ممثل، بل حالة، روح ترفض أن تُختزل في أدوار عابرة.

هو ذلك النوع من الفنانين الذين لا يكررهم الزمن، الذين يبقون، حتى بعد أن تنطفئ الكاميرا.

في كل مشهد قدمه، كان هناك شيء أكثر من التمثيل، شيء يشبه الحقيقة، يشبه الحياة نفسها. محمود حميدة ليس مجرد نجم، بل تجربة، درب طويل من الشغف، رجل اختار أن يكون فنانًا حقيقيًا، وظل وفيًا لهذا الاختيار حتى النهاية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.