
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في كل زقاق مصري، هناك رجل لا يتكلم كثيرًا، لا يرفع صوته، لكنه إذا مرّ، شعر الجميع به دون أن يلتفتوا. هو ليس الفتى المدلل الذي تحمله السينما على كتفيها، وليس (ابن الأكابر) الذي يسير ممسوح الملامح، بل هو الوجه الذي يحمل في قسماته شقوق الحارة القديمة، وندوب الزمن.
(باسم سمرة) لم يترك الحارة، لم تغادره الأزقة، ظل ظلًّا ممتدًّا بين المشاهد، يتحرك بين النور والعتمة، بين الحقيقة والخيال، كأن السينما لم تخلقه، بل عثرت عليه في درب ضيق، كُتب عليه أن يمضي فيه وحده.
في حضن الأهرامات، حيث الشمس تنحني عند المغيب كأنها تؤدي التحية الأخيرة للأرض، عاش (باسم سمرة) في نزلة السمان، حيث يتعلم الأولاد مبكرًا أن الحياة ليست نزهة، وأن القسوة ليست خيارًا بل قانونًا.
تربى الفتى بين الصخور، بين خطوات السياح ولهجاتهم المتداخلة، بين الحكايات التي لا تُحكى إلا في ظلال المقاهي القديمة.
لم يكن حلمه أن يكون ممثلًا، لم يرَ نفسه نجمًا، كان مجرد ولد يعرف كيف يمشي في الشوارع دون أن يصطدم بها، كيف يتفادى العيون، وكيف يترك أثرًا لا يُمحى، حتى لو لم يره أحد.

من السبورة إلى الكاميرا
قبل أن تفتح له السينما أبوابها، (وقف باسم سمرة) أمام سبورة في مدرسة صناعية، يشرح لتلاميذه دروس الميكانيكا.
كان المدرس الشاب يعرف أن الحديد يُطوَّع بالنار، لكنه لم يكن يدري أن القدر يعدّ له نارًا أخرى، نار الضوء، حيث الوجه يُحفر على الشاشة، وحيث النظرة وحدها قد تروي قصة كاملة.
لم يكن يركض خلف الحلم، لكنه كان يسير نحوه بخطواته المعتادة، نصف مغمضة العين، نصف مبتسمة، كأنه يعرف الطريق حتى وإن لم يره.
وحين رآه المخرج (يسري نصر الله)، لم يكن يختار ممثلًا، بل كان يعثر على شخصية خرجت من بين الأزقة، تسير في دروب السينما كأنها تسير في حارتها القديمة.
في فيلم (المدينة)، لم يكن (باسم سمرة) يمثل، كان فقط يمشي كما اعتاد أن يمشي، يحمل فوق كتفه حمولة الأيام، ويمضغ الكلمات كأنها آخر ما تبقى له في الدنيا.
في (عمارة يعقوبيان)، كان يقف هناك، خلف باب خشبي قديم، في العتمة، رجلٌ يختبئ من المدينة لكنه لا يهرب منها.
(عبد ربه)، العسكري الذي باع جسده في ليالي القاهرة الباردة، لم يكن يحتاج إلى البكاء كي يحكي قصته، لم يكن في حاجة إلى كلمات كي نعرف كيف طحنته الحياة.
كان يكفي أن ينظر تلك النظرة التي لم تستمر إلا لحظة، لكنها كانت كفيلة بأن تفضح المدينة كلها، أن تفتح جروحًا لم تلتئم، وأن تجعلنا ندرك أن بعض الوجوه، حتى وإن صمتت، فإنها تصرخ بصوت لا يسمعه إلا من كان يحمل نفس الجرح.

حين يحكم الصمت
فى فيلم (الجزيرة)، لم يكن (باسم سمرة) هو الأسد، لكنه كان (ظل الحفني)، الرجل الذي يتحرك في الخلفية، لكنه يدير المشهد كله.
قالوا إن (منصور) هو ملك الجزيرة، لكن كل من يعرف الحارة، يعرف أن الأسد لا يخطو خطوة واحدة إلا بإشارة من الظل.
(حسن الحفني) لم يكن يحتاج إلى خطب طويلة، لم يكن يرفع صوته، لكن نظرة واحدة منه كانت كفيلة بأن تجعل الدنيا كلها تصمت.
(باسم سمرة) لا يحتاج إلى كلام كثير، عيناه وحدهما كفيلتان بأن تحكيا كل شيء.
في نظراته، ترى الجريمة كما يراها ولاد الحارة، وترى الحزن كما يعرفه الرجال الذين لا يبكون، وترى الحب… كمن ذاقه مرة واحدة، ثم خاف أن يذوقه من جديد.
في كل مشهد، نظرة واحدة تكفي.

حين يخرج من الظل
في العتاولة، خرج (باسم سمرة) من الظل إلى الضوء، لكنه لم يترك الحارة خلفه، بل حملها معه.
كان (عيسى الوزان)، الرجل الذي لا يخاف، لا يهاب أحدًا، لكنه في داخله يحمل قلبًا يعرف الحب، حتى وإن كان لا يعترف به.
وحين وقف أمام نسرين إمام وقال:
(يلا بينا)..
لم تكن مجرد جملة، كانت دعوة للحياة، للحارة التي لا تعرف الهدنة، ولا تحب الكلام الكثير.
(باسم سمرة) لا يحفظ النص، لا يتدرب على الأداء، هو يدخل المشهد كما يدخل الأزقة، بكتف مائل قليلًا، بعين نصف مغمضة، وبصوت يعرف متى يعلو، ومتى ينخفض.
هو ليس نجمًا يسعى إلى الشهرة، لكنها سعت إليه، وإذا غاب، تشعر أن المشهد ناقص، أن الشارع صار أقل حياة.
لم يكن يومًا فتى المجلات، ولا نجم الإعلانات، لكنه كان دائمًا في قلب المشهد، الرجل الذي تظن أنك لن تراه، لكن إذا غاب، تكتشف أنك لم تعد ترى الصورة كاملة.

موطنه الأول والأخير
من (نزلة السمان) إلى (عيسى الوزان)، ظل وجهه مغموسًا في تراب الطرقات، وظل صوته محملًا برائحة المعسل، وظلت عيناه تحملان نفس السؤال القديم:
(هو إحنا هنعيش لحد إمتى؟).
(باسم سمرة) لم يكن ظلًّا عابرًا كما توهم البعض، بل كان ظلًا يعرف متى يختبئ، ومتى يظهر، متى يتوارى خلف المشهد، ومتى يحتل الشاشة دون أن يطلب ذلك.
هو ذلك الصوت الذي قد يعلو إذا احتاج الأمر، والضحكة التي تنفجر حين تتطلب الشخصية ذلك، لكنه في النهاية يبقى كما هو:
رجل لم تصنعه السينما، لكنها اكتشفته.. واكتشفت معه أن بعض الظلال، حين تمر، تترك أثرًا أعمق من الضوء.