رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عم (صلاح).. بهجة مصر الحزينة وصوتها الحنون

.. بعامية مصرية أعاد لها عُرسَها وكامل بهائها وموسيقاها من ذلك الكنز الذي اختزنه طفلا جميلا

(حبيبي سكر مر طعم الهوا)

بقلم الدكتورة: كرمة سامي *

صوت مصرَ الحنون

بهجة حزينة،

كل موقف أو شعور، أيا كان، كان معنا في الصورة عمنا (صلاح)، بل كان يرسم هذه الصورة.

لماذا أتذكره اليوم؟

بل لماذا لا أتذكره كل يوم؟

معي، ومعنا دائما من الطفولة إلى الكهولة ثم الشيخوخة،

من أول شعاع شمس إلى آخر أحلام المساء

من:

أول مقدمة غنوة وحدوتة قبل موعد أتوبيس المدرسة وبهجة نداء الأغنية بصوت أطفال مثلنا:

 (يا ولاد يا ولاد.. تعالوا تعالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة.. راح تحكى لنا حكاية جميلة.. وتسلّينا وتهنينا.. وتسمّعنا كمان أسامينا.. أبلة.. أبلة فضيلة)..  

ثم يدخل صوت أبلة فضيلة في كادر اليوم:

(حبايبى الحلوين، كان يا ما كان يا سعد يا إكرام ولا يحلا الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام).

 إلى:

طابور المدرسة وطابور العيش والرزق على الله..

في الغيط والحارة والشارع والمصنع وفي الجرنان

في البهجة والأحزان

أحلامه أحلامنا، أفراحه أفراحنا، أحزانه أحزاننا. 

هدايا عمي (صلاح) لا تحصى

أنطق لسانَنا وقوَمّه

وكشف لنا عن الشعر في مشاعرنا

لم يقترب فنان من الشعب المصري مثلما اقترب (صلاح جاهين) حتى ارتبط قلبه بقلوب المصريين

ارتبط بقلوب المصريين

.. بعامية مصرية أعاد لها عُرسَها وكامل بهائها وموسيقاها من ذلك الكنز الذي اختزنه طفلا جميلا مراقبا من نافذته من أي بيت في أي محافظة من محافظات مصر، حسب عملِ والده، عمال التراحيل والأنفار والفلاحين والباعة الجائلين..

ولهذا من الطبيعي ألا يمر يوم دون أن يكون معنا جاهين بكلماته وموسيقاها وبهجتها وشجنها.

لم يقترب فنان من الشعب المصري مثلما اقترب (صلاح جاهين) حتى ارتبط قلبه بقلوب المصريين.

في طفولتي يبدأ يومي كلَ صباح بفتحة (الجرنان) على صفحة الاجتماعيات وكاريكاتير عمي (صلاح)، وفي مرحلة لاحقة في صفحة 2 صفحة الإذاعة والتليفزيون..

ترى ماذا يقول اليوم؟

تعليقه على مآل حالِنا، نقد وتحليل فني واجتماعي وسياسي بكل جرأة وشياكة ومكر!

..عن طير الوروار، وكلوديا كاردينالي، والتعليم، واللغة العربية، وأسطوانة عبدالوهاب البلاتينية، وارتفاع الأسعار..

ببساطة،

(صلاح جاهين) ترجمنا بكل وسيلة فنية متعه الله بها.. وببصيرة ونبوءة فنان كبير.. ولو أعادت جريدة الأهرام نشر كاريكاتيره لوجدنا لكل مقام مقال هنا والآن.

لا أنسى حكايا والدي عن سهراته في بيت عمي (صلاح)، حيث كان (الأهرام) يسهر في بيت صلاح جاهين

وحكى لي بابا عن المكالمة اليومية بين عمي (صلاح) وبينه ظهر كل يوم:

– عندك ايه يا سامي؟

– ارتفاع أسعار الدواجن.

– ايه تاني؟

– شيرلي تمبل زارت مصر.

 – ايه تاني؟

 – كيسنجر تزوج سكرتيرته.

– ايه تاني؟

– اختفاء أنابيب البوتاجاز!

– بس خلاص!.. أبعت لي (الرجل الغامض) بعد نصف ساعة!

شكرًا على (الدرس انتهى).. تفاعلك الإنسانيّ الفني بمذبحة بحر البقر

الرجل الغامض بسلامته

يتصل والدي بإدارة الحركة والنقل لترسل  (الرجل الغامض بسلامته) السائق المكلف بتسلم كاريكاتير (صلاح جاهين) كل يوم.. وكان عم (صلاح) يطلق عليه الرجل الغامض بسلامته لأنه صامت لا يتكلم ويرتدي نظارة شمسية سوداء.

يجلس الرجل الغامض على كرسي مائدة السفرة حتى يكمل (صلاح جاهين) لمساته على الكاريكاتير ويضعه في مظروف ويأخذه الرجل في صمت دون كلمة ليؤدي وظيفته اليومية المقدسة، ويسلم الكاريكاتير لوالدي في قسم السكرتارية الفنية! 

..

أوجعت قلبك مآسي أمتنا يا عمي (صلاح).. كان جيلهم بجناحات والأحلام الجميلة زامت فيها الدانات (بهاء جاهين).

..

شكرًا على (الدرس انتهى).. تفاعلك الإنسانيّ الفني بمذبحة بحر البقر، مكررا تفاعل بابلو بيكاسو بمذبحة جورنيكا، وكتبت قصيدة بصرية تفوق فيها الشيخ سيد مكاوي وصوت مصر شادية، لتكتبها أنت فيما بعد بالإنجليزية!

نعم هذا ما علمته من كريمتك سوسنة الطبع (أمينة هانم جاهين)، وحجزت ستوديو في ماسبيرو وغنتها أمينة مع كورال الأطفال خلف المطربة (منار أبو هيف)، ووفر لي الوثيقة السمعية الصديق المؤرخ الفني أحمد السماحي، لأسمع هذا الجمال بأذنيّ!

ولا أعرف لماذا لا يخرج التسجيل للنور من سراديب ماسبيرو؟، ولماذا لا يعاد التسجيل الآن ليعبر عن احتجاج مواطني أمتنا على عالم يسكت (على فعل الأباليس) حتى يومنا هذا؟

 .. شكرا على ضَفيرة البهجة والخوف التي اكتشفتُها مع (صحصح لما ينجح)، ومعك محمد فوزى بألحانه، وصلاح السقا بإخراجه، يا الله!.. كلُ هذا الفيضِ من المحبة للطفل المصري من ثلاثة عظماء!

..

مسرحية أطفال سيريالية منسوجة من عناصر كابوسية لا مثيل لها في تاريخ مسرح العرائس ومسرح الطفل، تذكرني بالفيلم العبقري (دِستينو) الذي اشترك في صنعه  “مهندسا الخيال” والت ديزني وسلفادور دالي عام ١٩٤٥ وخرج إلى النور عام 2003.

ولماذا لا يحول أحد أطفال الأمس الذين استمتعوا بهذه المسرحية إلى فيلم كرتون؟ ويمنح لقدرات (صلاح جاهين) الكامنة فرصتها ويعطي لطاقات خياله المترع مساحاتها التي تستحقها فنرى العجب العجاب؟

شكرا على الكاريكاتير.. الدرس اليومي للقراء، وعلى الفيلم، والمسلسل، والرباعية، والقصيدة، والأغنية

مسيرة من المحبة الإبداعية

(صلاح جاهين).. مسيرة من المحبة الإبداعية للإنسان المصري والعربي، لمفردات الكون ولخالقه..

وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

شكرا على الكاريكاتير.. الدرس اليومي للقراء، وعلى الفيلم، والمسلسل، والرباعية، والقصيدة، والأغنية، ودرش، وسعاد حسني، وأحمد زكي، وبهاء، وأمينة، وسامية، وعمر، وأحمد، ويحيى! 

..

رحيل (صلاح جاهين) كان أول صدمة فقد حقيقية في حياتي، عندما اختفى الكاريكاتير وظهرت في مربعه قصائد حزينة أتذكر منها:

* البحر الليلة ماهوش ازرق

البحر رمادي في الجرنان

 راح نضحك قبل ما نتفرق

وأشوفك بكره يا فنان

وأتذكر أيضا:

* جالك أوان وعرفت مشي الجنائز 

شفت الكتاف في الكتاف

 والرِجل جنب الرِجل

..

كان في الجنازة جيش من الشعراء، أبناء (صلاح جاهين)، الذي عاش بعبقرية قلب شاعر شاب عاش ألف عام.

..

عمي (صلاح) باق بيننا..

في درش، والورد المفتح، وردة ولد ووردة بنت، وحواديت الشوارع، وضربة المطرقة على السندان، وتلاميذ المدارس، وكراريسهم، والدم اللي على ورقهم سال (تلاميذ بحر البقر.. أم غزة؟)، وعمال المصانع، والسد العالي والكهربا في الريف بتلالي،

..

عايز تشوف عمك (صلاح).. بص فوق.. في السما، شايف حمام البر.. اسمع كلام عمك (صلاح) وماذا قال له في أجمل وأرق بيت شعر في حب مصر:

يا حمام البر سقف

 طير وهفهف

 حوم ورفرف

 على كتف الحر وقف..

والقط الغلة،

عارف فين عمك صلاح؟: (سلامات يسعد صباحك دي بلدنا.. خد براحك!).

..

خد براحك يا عم (صلاح) في بلادك، وقلوبنا،

وفي قلب الثلاث أحرف الساكنة اللي شاحنة ضجيج:

 ميمُ، صادُ، راءُ.

* أكاديمية مصرية – رئيس المركز القومي للترجمة والنشر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.