
بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
لم أتعجب مطلقاً من كم البشر الذين شيعوا جنازة (خط الصعيد) الأخير في قريته بمركز ساحل سليم بمحافظة أسيوط، بل وتوقعت أن تكون الجنازة حاشدة بمجرد أن علمت بأن الجهات الأمنية لم تعترض على تشييع الجنازة في مسقط رأسه.
وإلا كانت تولت هى بنفسها عملية الدفن وفق إجراءات أمنية معينة من شأنها أن تحول دون توافد هذه الحشود الكبيرة للناس كما حدث في وقائع كثيرة لأشخاص مثل (خط الصعيد) الجديد وغيره.
ولكن لم تكن توقعاتى تلك، إلا بسبب أننى أزعم أننى متفهم لردود أفعال الجماهير لنشأتى في قلب الصعيد الجوانى وتشبعى بعاداته وتقاليده.
فربما لا تعرفون – أو ربما تتجاهلون- ما يشكله المجرم مثل (خط الصعيد) المشهور في المخيلة الشعبية في الماضي والحاضر.
أذكر في طفولتى البعيدة، افتاننا أنا وأقرانى بما يتردد عن المجرمين الكبار الذين يشتهر عنهم أعمال السطو وقطع الطريق وما شابه من الجرائم العنيفة!.
فهناك تداخل ما بين صورة البطل وصورة المجرم (خط الصعيد)، ليست في مخيلة الأطفال وحدهم، بل في الذهنية العامة، فكم حولت هذه الذهنية مجرمين حقيقيين إلى أساطير وبطولات.
حتى أن غالبية الأبطال في القصص والحواديت، كانوا مجرمين ولكن تم تجميل أعمالهم إلى درجة إعادة اختلاق الشخصية على أسس أخلاقية جديدة تجعل منه حاملاً لكل صفات الفروسية من الشهامة والكرم والنجدة والمروءة والتضحية!.
تلك هى أميز الصفات لدى المجرم البطل في الملاحم والسير الشعبية.
لقد تربينا على (السيرة الهلالية) وكنا نخرج بالسيوف المصنوعة من الجريد بعد مشاهدة فيلم عنترة بن شداد ونتعارك في مشاهد تمثيلية في الساحات والطرقات ونحن ننمتطى خيولاً من خيال!

عنترة بن شداد
لم نسأل لماذا كان (عنترة) يغير مع قبيلته على القبائل الأخرى، فيقتل ويسلب ولا نسمح لعقولنا أن تتدخل لتسأل عن هدف الراية التى يحملها عنترة.. فقط تبهرنا انتصاراته وأكثر ما يعجنا فيه:
(يخبرك من شهد الوقيعة أننى
أغشى الوغى وأعف عند المغنم)
لكننا لا نسأل لماذا إذن غشي (عنترة) الوغى وهل كان المغنم حقااً له حتى يأخذ أو يعف؟!
أما (أبو زيد الهلالي سلامة)، فحدث ولا حرج، فقد كان يقلتلنا عجباً في معاركه ويأسر قلوبنا مع أسراه!
وتراجع أمام بطولته (الزناتى خليفة) لأنه شاخ وهرم ولم يعد كما قال عنه أبوزيد متحسراً على فتوته بالرغم من الخصومة الدامية بين الهلايل والزناتية: (لو جانا في سن الثمانين كان قتل من الرجال ستين وشرد بنات الهلايل).
ألا تراه وهو يقتل عشرين من ثمانين فارساً ليفوز بزغروته من عالية العقيلية كان راهنها عليها إذا ما تغلب على الثمانين من فرسان أهلها، كل ذنبهم أنهم اعترضوا طريقهما لمنعها من أن تترك ديار بني عقيل لتذهب معه إلى نجع الهلالية!
وهكذا على طول الزمان في كل السير والملاحم، تجد في التراث الشعبي المصري مثل هذه القصص البطولية في السلب وسفك الدماء ولا يهم بحق أم بغير حق؟!
هل في التراث الشعبي المصري وحده؟!
لا ورب الكعبة.. فإننا إذا قصرنا ذاك على التراث الشعبي المصري أو العربي، فإنا إذن من الظالمين!
فاذهب واطلع على الميثيولوجيا اليونانية واغترف ما تشاء من (الأوديسة والإلياذة) الهوميرية!
يمكنك أيضاً أن تتجول في بقية الميثيولوجيات الأخرى، روما، فارس، الهند!
ولماذا التراث الشعبي كان حقيقةً أم خيالاً؟!
إن الوقت لن يتسع لمراجعة قصص الإلياذة!
فلتنظر إلى تاريخ الإنسانية فتأمل أبطالها العظام، حتماً أنت تعرف أن غالبيتهم من قادة الحروب وفرسان المعارك في البر والبحر والجو!
وبغض النظر عن المبررات بالحق أو بالباطل، ستجد الإعجاب بالأبطال متعلقاً بمدى قدرتهم على القتال والمراوغة والقوة الهائلة على تدمير العدو.
ولا تقلق.. فيمكن معالجة النفور من كم الدماء المسالة بأيدي الأبطال، بإسباغ الصفات المشار إليها أعلاه!

وحش الشاشة
وتجاوز معى التاريخ الحقيقي والمثيولجي والمختلط بينهما، ولنقفز معاً إلى الحاضر.. راجع أنجح الأفلام السينمائية عالمياً ومحلياً ، ستجدها تدور حول ذلك أيضاً.
لن أطيل عليك أكثر من هذا وسأذكرك سريعاً بلقب الفنان الكبير الراحل فريد شوقي (وحش الشاشة).
أذكر تلك الصدمة الكبرى في نهاية فيلم (حميدو) عندما مات البطل في النهاية – وهو على فكرة مهرب مخدرات – فالبطل لا يموت حتى ولو كان مجرما!
فالعلاقة بين البطولة والإجرام علاقة وثيقة، أما الإعجاب بالمجرم فأنت تجده في عبارات بسيطة نرددها في حياتنا اليومية بلا وعي، فمثلاً عندما تريد أن تظهر إعجابك بطفل ذكي ونشيط، تصفه بأنه مجرم وشقي، بلا أى شعور بالذنب حيال صفتى الإجرام والشقاء!
ألا ترى معى أن اسماء مثل (على الزيبق وأحمد بن شبيب وأدهم الشرقاوي وياسين حبيب بهية)، ترددت في المووايل والأغاني، مع أنهم كانوا لصوصاً وقطاع طرق، لكن الإعجاب اختلق لهم قصصاً وحكايات ومواويل وروايات.
(إذا كان كلمة شاطر أساساً أطلقت على المجرم الفاتك).
(مالى فتنت بلحظك الفتاك).
(حتى الجمال وصفناه بالقتال والفتاك)!
وأنا وأنت وهو وهى وهم وهن، لاشك يبهرنا أداء توفيق الدقن ومحمود المليحي وعادل أدهم وزكي رستم وصلاح منصور في أدوار الشر، فهل يبهرنا أداؤهم في أدوار أخرى مثلها؟!
وأجبنى بصراحة: في فيلم (شيء من الخوف) هل أعجبك (محمود مرسي) في دور عتريس الكبير أم عتريس الصغير؟!
ولن أسألك عن تعاطفك الكبير مع (شكرى سرحان) في فيلم اللص والكلاب ولا إعجابك برشدى أباظة في الرجل الثاني ولا حتى أحمد السقا في الجزيرة..
جرب وانزل الشارع وأسأل عن محمد رمضان!
ترفض.. تقبل.. غصبن عنك هناك من يعجبهم المقاوم الشرس في صورة البطل أو البطل المقاوم في صورة الشرس!
فالإعجاب بالقوة والشراسة وفرض السيطرة ولو الى حين، لا يمكن أن ننكره أو نتنكر له.
(الأسد هو ملك الغابة ولا يمكن أن يكون الغزال ملكاً)!
وبعد كل ذلك تتعجب من تلك الحشود في جنازة (خط الصعيد)؟!
(ع أقولك إيه عاد.. هملنى وتور من قدامى أنا مش ناقصك يا واد عمي).
(ومنين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه).