رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(رياض القصبجي).. دمعة تحت خوذة الضحك!

(رياض القصبجي)، الرجل الذي أضحك الملايين، مات فقيرًا مهملًا كأنه طيف مر سريعًا دون أن ينتبه أحد

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

رغم أن الفنان (رياض القصبجي) كان من أكثر ممثلي مصر إضحاكًا، وبالرغم من ملامحه العنيفة التي بدت وكأنها مهيأة لتجسيد أدوار الشر، إلا أن روحه حملت قدرة استثنائية على انتزاع الضحكات من القلوب حتى في أشد اللحظات ظلامًا.

 قد يبدو هذا المقال على غير طبيعة شخصيته البسيطة، لكنه يحكي مأساة رجل صنع البهجة لغيره وعاش النهاية في صمت موحش.

(رياض القصبجي)، الرجل الذي أضحك الملايين، مات فقيرًا مهملًا كأنه طيف مر سريعًا دون أن ينتبه أحد. ليس وحده من عاش هذا المصير؛ أبناء جيله من عباقرة الفن تقاسموا هذا الألم، لكن الفرق أن الزمن الذي نعيشه اليوم صار يرفع شأن التافه ويهمّش الموهوب.

 فهل هو عيب فينا؟ أم أن المنظومة اختلت حتى صارت تقيس النجاح بثروات نجوم بلا وزن ولا تاريخ؟

لم يكن الطفل الصغير يعلم أن ملامحه الجادة تلك ستصبح بطاقة عبوره إلى قلوب الملايين

طفل الجنوب وحلم السينما

وُلد (رياض القصبجي) عام 1903 في قرية جرجا بمحافظة سوهاج، وسط صعيد مصر، حيث الجبال الشامخة والسهول المترامية، كانت بيئته الأولى تضج بالمشقة والكدح، لكنها أيضًا حبلى بروح العطاء والجمال الكامن في بساطة الجنوب.

لم يكن الطفل الصغير يعلم أن ملامحه الجادة تلك ستصبح بطاقة عبوره إلى قلوب الملايين، ولا أن روحه التي اعتادت المزاح والضحك بين أقرانه ستتحول يومًا ما إلى نهر من البهجة على الشاشة.

نشأ (رياض القصبجي) في أسرة متواضعة، اعتاد حياة الكفاف في مجتمع يحترم الجدّ والعمل.

التحق بالسكة الحديد، حيث أصبح موظفًا يعمل بانتظام، لكن روحه الطموحة كانت تطمح إلى ما هو أبعد، ربما كان صوت القطارات وهي تمضي سريعًا نحو المجهول يثير داخله رغبة باللحاق بعالم جديد، يخرجه من رتابة الحياة اليومية.

عام 1939، وبينما كان (رياض القصبجي) يمارس رياضة الملاكمة التي أحبها، لفتت بنيته القوية وملامحه المميزة نظر المخرج توجو مزاحي.

كان المخرج يبحث عن وجه جديد لتأدية دور ملاكم في فيلم (سلفني 3 جنيه) بجانب علي الكسار.

قبل (رياض القصبجي) العرض بحماسة، وكانت البداية التي طالما حلم بها، رغم أن أجره كان خمسون قرشا فقط، إلا أن هذه الخطوة الصغيرة أعادت تشكيل حياته بالكامل

استقال من السكة الحديد، وقرر الالتحاق بفرقة علي الكسار المسرحية، هناك، تعلّم أصول الأداء المسرحي، وبدأ يتقن فن إضحاك الجمهور.

كان (الشاويش عطية) شخصية بسيطة وعفوية

الضحك العفوي الذي لا يُنسى

مع انطلاق سلسلة أفلام إسماعيل ياسين، وجد (رياض القصبجي) فرصته الذهبية. عبر شخصية (الشاويش عطية) التي أداها ببراعة أصبحت من أبرز أيقونات الكوميديا في السينما المصرية.

كان (الشاويش عطية) شخصية بسيطة وعفوية، رجل طيب ينفذ الأوامر العسكرية بسذاجة كوميدية لا تُنسى.

من منا لا يتذكر عبارته الشهيرة: (شغلتك ع المدفع… بررروم!!!)، هذه الجملة، التي خرجت عفويًا في أحد الأفلام، تحولت إلى توقيع خاص به، يُذكّر جمهوره دومًا بروحه المرحة.

لكن خلف الكاميرا، كان (رياض القصبجي) إنسانًا بسيطًا، يعيش بعيدًا عن صخب الأضواء.. لم يكن يملك سوى موهبته الكبيرة وقلبه النقي.

كان يرى التمثيل واجبًا، ورسالته الحقيقية كانت في رسم الابتسامة على وجوه الناس، بغض النظر عن الظروف التي يعيشها.

لم يكن غنيًا أبدًا؛ عاش حياته مثل أدواره، بسيطًا ومتواضعًا، يكتفي بالقليل

حياة مليئة بالتحديات

رغم شهرته الكبيرة، كانت حياة (رياض القصبجي) مليئة بالتحديات.. لم يكن فقط ممثلاً يُضحك الناس، بل كان أبًا يعول أسرته ويواجه صعوبات الحياة اليومية بصمت.. بينما كان يُسعد الملايين بأفلامه، كان يخبئ وراء الكواليس رجلًا يكافح ليؤمن مستقبل أبنائه.

لم يكن غنيًا أبدًا؛ عاش حياته مثل أدواره، بسيطًا ومتواضعًا، يكتفي بالقليل.

في آواخر الخمسينيات، وبينما كان رياض في أوج عطائه، أصابته جلطة قلبية أنهت مسيرته الفنية فجأة، الجلطة شلت حركته وأضعفت جسده، لكن الأسوأ كان شعوره بالتجاهل والنسيان.

لم يجد (رياض القصبجي) في سنوات مرضه من يمد له يد العون.. أصدقاؤه في الوسط الفني ابتعدوا عنه، حتى (إسماعيل ياسين)، شريكه في معظم أفلامه، لم يزره، كان هذا الغياب بمثابة طعنة أخرى في قلب رجل كُسر بالفعل.

مع فاتن حمامة
مع هند رستم

حسن الإمام وزيارة البلاتوه الأخيرة

في سنواته الأخيرة، كان (رياض القصبجي) يعاني من الفقر والمرض لكنه لم يفقد الأمل.. المخرج (حسن الإمام)، بروحه الإنسانية، قرر زيارته ودعاه لحضور جلسة تصوير فيلم جديد، فرح (رياض القصبجي) ، وأمسك بأمل هش.

حضر إلى البلاتوه، لكنه لم يكن نفس (الشاويش عطية) الذي يعرفونه؛ كان جسده منهكاً، وروحه مثقلة بالوجع.

(حسن الإمام)، بعينيه الحانية، طبطب عليه وقال: (كنت عاوز أطمن عليك).. كانت جملة دبلوماسية لتخفيف الصدمة.

 (ياض القصبجي) فهم، لكنه لم يبدِ اعتراضًا؛ عاد إلى منزله، منتظرًا القدر الذي كان أسرع من أي فيلم جديد.

مع إسماعيل ياسين

الضحكة الأخيرة

في 23 أبريل 1963، غادر (رياض القصبجي) عالمنا بصمت.. الرجل الذي أضحك الملايين مات فقيرًا، ودفن دون تكريم يليق بمكانته.. لم تكن جنازته كبيرة، ولم يكتب عنه الكثير في الصحف، لكنه ترك وراءه إرثًا خالدًا من الأفلام والذكريات التي ستظل مصدرًا للفرح للأجيال القادمة.

(رياض القصبجي) كان أكثر من ممثل؛ كان درسًا في البساطة، وقصة إنسانية عن التضحية.. رغم فقره ونهايته الحزينة، ظل الرجل الذي أضحكنا جميعًا رمزًا للبهجة وسط عالم مليء بالتناقضات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.