رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (ماري منيب).. قنبلة الضحك الذرية

تعدَّدت الحكايات حول بداية ظهور (ماري منيب) في سماء الفن

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

إذا كان للضحك سيدةٌ على عرش الكوميديا المصرية، فإنَّ هذه السيدة (ماري منيب) ليست مجرد فنانة، بل هى قنبلة ذرية  حقيقية في عالم الفن، انفجرت في وجوهنا فجأة، وابتسم لها الجميع، ولو كانت المحاكم قد حكمت عليها، لكانت محكوم عليها بأن تظل في قلوبنا، مهما مرَّ الزمان.

 إنها (الممثلة الكوميدية المعجزة)، التي أذهلتنا بجمال ضحكتها وبقدرتها العجيبة على أن تجعلنا نضحك من أعماقنا في أصعب اللحظات.

تعدَّدت الحكايات حول بداية ظهور (ماري منيب) في سماء الفن، وكل واحدة منها كانت كفيلة بإحداث ضجة في عالم الكوميديا.

ولدت (ماري منيب) في 11 فبراير 1905 في بيروت، لكن سرعان ما انتقلت إلى القاهرة مع أسرتها، لتبدأ في طي صفحات حياتها الأولى، التي لم تكن تتميز بالكثير من البهجة.

كان الفقر يلاحق أسرتها بعد وفاة والدها، لكنها كانت تحمل في قلبها شيئًا آخر، شيئًا خفيًا كان ينتظر اللحظة المناسبة ليُظهر نفسه.

تعرف جيدًا أن أحد أقوى الأسلحة التي تستطيع أن تستخدمها في مواجهة الحياة هو الضحك

 موهبة استثنائية

على الرغم من تحديات الحياة، كانت (ماري منيب) تعرف جيدًا أن أحد أقوى الأسلحة التي تستطيع أن تستخدمها في مواجهة الحياة هو الضحك.

 لم يكن الضحك مجرد مهنة بالنسبة لها، بل كان طقسًا يوميًا، وعلاجًا لجروح الحياة التي لا تنتهي. كيف لا؟ وقد ولدت في عائلة لا تعرف غير مشقة العمل وتعب الأيام.

في تلك الأيام، لم يكن الفن السهل متاحًا لكل شخص، لكن (ماري منيب) كانت تُدرك، مثلما أدرك جميع العظماء، أن الكوميديا تحتاج إلى روح مرحه، ودما حارا ، وحبا  طاغيا للحياة .

بدأت طريقها في (مسرح الريحاني) الذي كان بمثابة المكان الذي تخلق فيه كل البذور الفنية التي ستغزو العالم لاحقًا.

انطلقت مارى مع (نجيب الريحاني)، معلمةً لنا درسًا لا يُنسى عن قوة الكوميديا البسيطة التي تخترق الحدود الثقافية والاجتماعية.

هناك، في المسرح، تعلمت (ماري منيب) كيف تضع الحماة البغيضة على خشبة المسرح بطريقة لم يرها الجمهور من قبل، حتى أصبحت الحماة التي تحمل ابتسامتها الخبثية ويحبها الجميع رغم سلطتها الزائفة، أيقونة ضاحكة لا تُنسى.

فتاريخ (ماري منيب) في السينما كان أشبه ببركانٍ ينفجر ضحكًا لا يتوقف

مرآة المجتمع المصري

أما عن الأفلام، فتاريخ (ماري منيب) في السينما كان أشبه ببركانٍ ينفجر ضحكًا لا يتوقف.

فيلم بعد فيلم، كان يشهد تطورًا في الضحكة التي تجسد روح الشعب المصرى  البسيط، الذي قد لا يمتلك الكثير من المال، لكن لديه القدرة على أن يضحك على نفسه وحياته.

كانت (ماري منيب) توزع ضحكاتها بسخاء، في أفلامٍ مثل (حماتي قنبلة ذرية، الحموات الفاتنات، لصوص لكن ظرفاء)، وسواها، فلم تكن مجرد ممثلة تقدم أداء كوميديًا معتادًا، بل كانت تقدم (هجومًا) قنبليًا على الكآبة والهموم التي تقبع في خلفية أي حياة بشرية.

تعالوا لتشاهدوا ضحكتها التي تنساب كغبار القنابل الذرية التي تدمر الحياة  السلبية وتزرع في مكانها الضحك.

لم تكن (ماري منيب) مجرد ممثلة، كانت فنانة تجاوزت حدود الشخصية الكوميدية السطحية.. فهي كانت بحق فنانة قادرة  على منح  الضحك  طابعا إنسانيا.

لم تكن تؤدي أدوارًا مضحكة من أجل الإضحاك فقط، بل كانت تضفي على كل شخصية نوعًا من الروح التي تجعلها قابلة للعيش في قلب الجمهور.

الحماة في أفلامها، التي ربما كانت تثير خوفًا لدى البعض، تحولها (ماري منيب) إلى شخصيتها هى، بنكهة فكاهية متفردة، تجعل الجمهور لا يحبها فقط، بل يضحك معها من الأعماق.

وفي سجل أعمالها السينمائية الضخمة، كانت أدوار مارى منيب تتنوع، من الحماة إلى الأم، ومن الزوجة الجادة إلى النقيض تمامًا، كانت تضرب أروع الأمثلة في قدرتها على التنقل بين الأدوار المختلفة بتكاملٍ داخلي.

عاشت سنوات من البؤس وصراع الحياة قبل أن تصبح نجمة

كانت إنسانة حزينة

ولم يكن الجمهور يمل من مشاهدتها، بل كان يزداد تعلقًا بها.. ما قد يجهله البعض هو أن (مارى منيب)، رغم شدة ضحكتها، كانت إنسانة حزينة تحمل في قلبها أثقالًا أكبر من ضحكتها العميقة.

فقد فقدت والدها فى وقت  مبكر، عاشت سنوات من البؤس وصراع الحياة قبل أن تصبح نجمة، وفي تلك السنوات كانت تتعلم كيف تمسك بالأمل وتغرسه في قلوب الناس من خلال الفن.

عندما دخلت عالم الزواج، كانت دائمًا تحرص على أن توازن بين حياتها الخاصة وفنها.

زواجها الأول من (فوزي منيب)، وهو فنان أيضًا، لم يكن طويل الأمد، لكنها استمرت في رعاية أبنائها حتى تزوجت من (عبد السلام فهمي)، الذي كان بمثابة الأب لأطفال شقيقتها بعد وفاتها.

ولكنها كانت تشهد طوال حياتها، في ظل صراعات الحياة الشخصية، كيف تستطيع أن تحمل في طيات روحها الكوميدية فصلاً عميقًا من الألم.

رحلت (ماري منيب) عن عالمنا، ولكن لم يرحل ضحكها، بل بقي يتردد في آذاننا حتى اليوم

لا يزال الضحك يدوّي

في 21 يناير 1969، رحلت (ماري منيب) عن عالمنا، ولكن لم يرحل ضحكها، بل بقي يتردد في آذاننا حتى اليوم. كانت ضحكتها القوية والصادقة بمثابة صاعقة تفجر البهجة، وتحطم جدران الحزن.

 فالفن الذي تركته ليس مجرد لحظات كوميدية، بل هو إبداع أنساني قدم أعمق معنى للضحك.

ضحكتها لم تكن ضحكة سطحية، بل كانت طاقة غاضبة ضد البؤس، وحربا  ضد التوترات  النفسية .

يبقى إرث (ماري منيب) كضوءٍ ساطع في سماء الفن المصري، يعلو مهما مرَّ الزمان، وتظل ضحكتها النووية التي انفجرت في وجه الحياة، تدمج البسمة بالعبرة، ليظل الفن المصري في حاجة ماسة لهذا النوع من الفن الفريد الذي جمع بين الطرافة والجمال والإنسانية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.