رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (محيي الدين عبد المحسن).. (الكرف) الذي أبدع في الظل!

موهبته التمثيلية كانت أقوى من أن تُقاوَم

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

الفن المصري عامر بأسماء لمعت تحت الأضواء وأخرى بقيت في الظل رغم موهبتها الفذة، من بين هؤلاء الفنانين الذين لم ينالوا التقدير الذي يستحقونه، يبرز اسم (محيي الدين عبد المحسن).

الممثل العبقري الذي أجاد تقديم شخصيات قاع المجتمع بمهارة نادرة جعلت أدواره محفورة في الذاكرة، ورغم حياته البسيطة، استطاع أن يترك بصمة لا تمحى في السينما والتلفزيون.

ولد (محيي الدين عبد المحسن) في 9 يوليو 1940 بقرية الرقة الغربية، التابعة لمركز العياط بمحافظة الجيزة.

لم يكن الفن وجهته الأولى، إذ درس اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، مما أكسبه ثقافة لغوية انعكست على أدائه.

بدأ حياته المهنية كمدقق لغوي، لكن موهبته التمثيلية كانت أقوى من أن تُقاوَم، فانطلق في عالم الفن ليجمع بين عمق الثقافة وبراعة الأداء.

على الرغم من أن أدواره كانت غالبًا ثانوية، إلا أنها لم تكن هامشية، وقد امتاز (محيي الدين عبد المحسن) بقدرته على استحضار تفاصيل الشخصيات التي جسدها، سواء كان فلاحًا بسيطًا، أو رجل عصابات، أو تاجر مخدرات.

أدواره لم تكن مجرد إضافات للقصة، بل كانت تضفي عمقًا وواقعية لا يمكن تجاهلها، ومن بين هذه الأدوار، كان دوره في فيلم (الكيف) علامة فارقة في مسيرته الفنية.

في فيلم (الكيف)، قدم (محيي الدين عبد المحسن) دور (الكرف)

مشهد لا يُنسى من (الكيف)

في فيلم (الكيف)، قدم (محيي الدين عبد المحسن) دور (الكرف)، تاجر المخدرات الذي يتسم بالدهاء والفكاهة السوداء.. من أبرز مشاهده كان لقاءه مع محمود عبد العزيز (مزاجنجي) في أحد غرز المقابر.

في هذا المشهد، يظهر (الكرف) جالسًا على طاولة، مستعدًا لاستلام الحشيش المغشوش من (مزاجنجي) يدور بينهما الحوار التالي:

الكرف: ده صنف سِكّة ما اشتغلتش فيه.

مزاجنجي: سيبك من العصعوصة والدود في العمود، واللف العفش اللي انت بتقوله ده يا كرف.

الكرف: ياسي مزاجنجي، الكيوف النهاردة اتطورت والحشيش بقى موضة قديمة. كيوف اللطش السريع بيتنافسه، واديك شايف.

مزاجنجي: أعوذ بالله من دي كيوف…  دى أكفان!

الكرف: الحشيش إن ما كنش على أبوه، ما حدش يستعطاه.. واللي معاك ده شعبي.

مزاجنجي: هو يعني الشعبي ده مالوش سكة؟

الكرف: له.

مزاجنجي: طب ما تسلكها يا أخي وخد عرقك… ما تبقاش فقري.

الكرف: انت معاك قد ايه؟

مزاجنجي: معايا حتة تيجي كيلو وشوية.

الكرف: جبتها منين؟

مزاجنجي: من بنت غلبانة معرفتي من زمان.. جوزها أصل كان تاجر مخدرات واتمسك، وساب لها يا عيني زوربة عيال ومحتاسة في البضاعة اللي سابهلها.

الكرف: وجوزها ده كان تاجر فين؟

مزاجنجي: في السنبلاوين؟

الكرف: اسمه ايه؟

مزاجنجي: عين الشكروت.. تسمع عنه؟

الكرف: لا.

مزاجنجي: ولا أنا.

ببراعة مذهلة، قدم (محيي الدين عبد المحسن) أداءً يجعل المشاهد يتأمل في كل حركة وكل كلمة.. نظراته الحادة، وطريقته الهادئة، ولهجته التي تجمع بين الجد والهزل، كلها جعلت الشخصية تبدو وكأنها مأخوذة من قلب الواقع.

ببراعة مذهلة، قدم (محيي الدين عبد المحسن) أداءً يجعل المشاهد يتأمل في كل حركة وكل كلمة

عبقرية الأداء

في هذا الدور، أظهر عبد المحسن فهمًا عميقًا للشخصية التي يجسدها.. لم يكن مجرد تاجر مخدرات، بل كان صورة مصغرة من المجتمع السفلي.

يجمع بين الدهاء والبساطة في آن واحد.. استطاع أن ينقل للمشاهدين أبعادًا خفية للشخصية، مما جعلها أكثر واقعية وتأثيرًا.

لم تقتصر عبقرية (محيي الدين عبد المحسن) على الكيف فقط، فقد قدم شخصيات متنوعة أظهرت مرونته الفنية، مثل دوره في (التوت والنبوت)، حيث جسد (موسى الأعور) صاحب العربخانة، وفي العار، قدم شخصية (المعلم هوبري) بأسلوب لا يُنسى.

كما ترك بصمته في الدراما التلفزيونية، حيث شارك في أعمال مثل (ليالي الحلمية، والشهد والدموع، ورأفت الهجان) .

 في كل دور لعبه، كان (محيي الدين عبد المحسن) يضيف لمسة خاصة تجعل الشخصية تبدو حية ونابضة بالحياة.

قدم (محيي الدين عبد المحسن) شخصية (المعلم هوبري) في أحد أدواره المميزة

أداء مدهش في فيلم (العار)

وفي مشهد آخر من فيلم (العار)، الذي أُنتج عام 1982، قدم (محيي الدين عبد المحسن) شخصية (المعلم هوبري) في أحد أدواره المميزة، بعد أن فقد (كمال/ نور الشريف) جميع رجاله بعد القبض عليهم,

يذهب للاستعانة بالمعلم (هوبري) لاستلام البضاعة الجديدة.. في هذا المشهد يتبادل (هوبري) و(كمال) حديثًا مليئًا بالتوتر والمراوغة:

هوبري: أنا عينيا ليك يا غالى يا ابن الغالى.

كمال: تعيش يا معلم هوبري.

هوبري: هتستلم إمتى وفين؟

كمال: المعلومات الأكيدة لسة ما وصلتنيش.

هوبري: ماشى يا كمال بيه، يلزمك كام راجل؟

كمال: ثلاثة كفاية بس يكونوا عويمة من اللى هما.

هوبري: اضرب تلاتة فى 15.

كمال: 15 ألف جنيه للنفر.

هوبري:  لا.. 15% من وزن الشيلة.

كمال: كمان؟

هوبري: انت طالب عيال مخلصة ومالهاش سوابق، مستعد أجيبلك عيال سوابق بـ 10% لا بـ 5%… بس ما أضمنش إنهم يطولوا رقبى معاك يا كمال بيه.

كمال: (جرى إيه يا معلم هوبري؟ أنت فاكرني موظف ولا عيل لسة بيلعب؟ ولا اكمنى رجالتي راحوا؟

هوبري: فشر، ده أنت معلم وابوك الله يرحمه كان سيد المعلمين.

كمال: طيب ما تتكلم معايا عدل؟.. من إمتى الصبيان بيشاركوا المعلمين بنسبة على الشيلة؟

هوبري: الشغلانة زنقت وخطورتها زادت.. الحكومة يا سي كمال صاحيه أوي، وأديك شايف، حد كان يصدق المعلم (بصبوص العتر) يقفشوله بضاعة بـ 12 مليون في الصحرا ويتقبض عليه هو وولاده ورجالته؟

في هذا المشهد، يظهر أداء (محيي الدين عبد المحسن) كشخصية معلم (هوبري) وهو يجلس بهدوء وهو يشرب الجوزة، يتبادل الأنفاس مع (كمال/ نور الشريف).

طريقة تناوله للجوزة، وابتسامته الهادئة، ونبرة صوته الجافة، تعكس تمامًا سمات الشخصية التي يجسدها.. هذه اللحظة تشير إلى طبيعة العمل في عالم الجريمة والمافيا، حيث يطغى الدهاء واللعب على الحافة.

 أداء (هوبري) يتسم بالاتزان، ما يعكس طريقة تفكير المعلم المتمرس في هذا العالم المظلم، كما يبرز التوترات الكامنة في العلاقة بينه وبين “كمال”.

رحل (محيي الدين عبد المحسن) عن عمر يناهز 72 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا غنيًا

الوداع الهادئ

رغم موهبته الفذة، عاش (محيي الدين عبد المحسن) حياة بسيطة، بعيدًا عن صخب الشهرة، لم يكن من أولئك الذين يتسابقون نحو الأضواء أو يتحدثون عن إنجازاتهم، بل كان يفضل أن يترك عمله يتحدث عنه.

في 21 ديسمبر 2012، رحل (محيي الدين عبد المحسن) عن عمر يناهز 72 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا غنيًا.. رحيله كان هادئًا مثل حياته، لكنه لم يمر دون أن يترك أثرًا في قلوب محبيه.

ربما لم يحصل (محيي الدين عبد المحسن) على التكريم الذي يستحقه خلال حياته، لكنه ترك إرثًا فنيًا خالدًا.. مشاهد مثل تلك التي قدمها في (الكيف والعار) ستظل شاهدة على عبقريته التمثيلية.

إنه (الكرف)، الذي أثبت أن الفن الحقيقي لا يُقاس بحجم الدور أو عدد الجوائز، بل بالصدق والبراعة في الأداء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.