بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
بعبقريته الموسيقية وتفرده.. بجنوحه في عالم لا يحد الخيال فيه أفق.. ولا للحدود سلطة على إبداع .. رسم (علي إسماعيل) لفرقة رضا للفنون الشعبية شخصيتها الموسيقية التي لم تستطع أي فرقة أخرى أن تحلق إلى مكانتها في قلوب المصريين و الذاكرة الفنية..
كانت الأربعينات والخمسينات ذروة انتشار السينما الاستعراضية.. بخاصة السينما الأمريكية.. وهى ذاتها فترة التكوين الفني للشاب (محمود رضا) الطالب بكلية التجارة.. فلاحق أفلامها..
واستولى على عقله وإحساسه تماما الممثل الاستعراضي (جين كيلى) صاحب الأسلوب الخاص في الرقص الذى يغلب عليه الطابع الرياضى المفعم بالحيوية بالإضافة الى تأنقه و حسن مظهره..
وبمجرد انتهاء الفيلم يسارع (محمود) إلى أقرب الشوارع المظلمة القريبة من السينما يحاول بكل دقة تقليد كل حركة من حركات (جين كيلي).. وإذا أحس بأنه أخطأ في تقليد حركة أو خطوة عاد يشاهد الفيلم كله ليلتقط نفس الخطوة..
وقد بلغ به الاهتمام بتقليد إحدى الحركات المركبة أن شاهد نفس الفيلم ما يزيد عن العشر مرات.. أصبح (جين كيلي) الملهم الأول لمحمود رضا في السينما..
راقصا في الفرقة الأرجنتينية
في نفس الوقت تابع (محمود) في المسارح والأوبرا العروض المختلفة للفرق الأجنبية التي تقدمها في مصر.. قادته الصدفة ليتابع عرضا لفرقة (ألاريا) الأرجنتينية للفلكلور الشعبى في حفلة بالاوبرج..
بعد انتهاء العرض أسرع (محمود) إليهم في الكواليس معبرا عن إعجابه و مقدما نفسه إليهم كعاشق لفن الرقص.. و حينما طلبوا منه تقديم عينة من رقصاته نال من إعجابهم و تقدم إليه مدير الفرقة بعرض أن يشاركهم برقصه بديلا عن احد أعضاء الفرقة الذى أصابه شد عضلى ..
بالفعل قام (محمود رضا) بمشاركتهم عروضهم في الرقص الشعبى الأرجنتيني على مسارح القاهرة و الإسكندرية.. تمسك مدير الفرقة باستمرار (محمود) فسافر معهم لتقديم العروض معهم في روما وباريس..
في باريس كان (محمود يدفع) أجرته التي يتقاضاها من الفرقة إلى مدرسة باليه تعلم فيها المزيد من الفن الراقص التعبيري..
وعند عودته إلى مصر تزوج محمود من (نجيدة) وهي الأخت الكبرى لفريدة فهمى.. كانت (فريدة فهمي) قد تزوجت من (على رضا) أخو محمود.. و بالمناسبة فنجيدة وفريدة فهمى هما نجلتى الدكتور حسن فهمى الأستاذ بكلية الهندسة..
وقد عانى د. حسن فهمى من توبيخ المحيطين به من العائلة و المعارف و حتى طلابه في الكلية كونه سمح بل وشجع بناته على انضمامهم الى فرقة راقصة صغيرة والزواج من راقصين ..
رغم ذلك استمر دعم د. حسن فهمى لهم لإيمانه بهدفهم في تكوين فرقة رقصات فولكلورية شعبية تحفظ لمصر جزءا من تراثها الفني وتطوره وتلفت إليه أنظار العالم بشكل علمى مدروس.. حتى اصبح د. حسن فهمى الأب الروحى لفرقة رضا..
وتوفيت (نجيدة) زوجة (محمود رضا) بعد زواجهما بخمس سنوات ليتزوج محمود بعد فترة اكتئاب حادة من اليوغسلافية (روزا) والتي أنجبت له الممثلة (شيرين رضا)..
بعد عودة (محمود رضا) من الخارج تواصل مع الكاتب (يحى حقى) المسؤول في ذلك الوقت عن الفولكلور الشعبى المصرى ليرسل له بالفعل بعد أيام قلائل دعوة لقيادة أوبريت راقص تشاركه فيه (نعيمة عاكف) ويخرجه الفنان (زكى طليمات)..
وبعد النجاح الساحق للأوبريت أشار د. حسن فهمى على (محمود رضا) أن يفتح مدرسة لتعليم الباليه و قد افتتحها بالفعل لفترة..
بدأ (محمود رضا) في تكوين الفرقة الخاصة به وبشقيقه (علي) .. كان (محمود) يمثل الجنون الفني بينما (علي) يمثل العقل الإدارى..
عبقرية تلتحق بفرقة رضا
انطلق (محمود) إلى ربوع مصر يستلهم مفردات البيئة الشعبية في المدن الساحلية وأعماق الريف ونجوع الصعيد غارقا في استخراج التعبيرات الشعبية الحركية والراقصة المعبرة عن الحزن والفرح والتسامح والغضب ليترجمها في خطوات وتعبيرات حركية وجسدية مغطاة بالملابس المعبرة عن البيئة الأم للرقصة.
ولأن هذا النوع من الفن الوليد لم يكن ليجتذب جمهورا كافيا فقد استعانت فرقة رضا في عروضها الأولى بمطربين كبار لأداء فقرات فاصلة بين الرقصات مثل (كارم محمود و شهرزاد)..
وكما خطط محمود وعلى رضا لشخصية حركية خاصة بالفرقة فقد أردا أيضا شخصية موسيقية خاصة و مميزة.. فجاء على رضا يوما إلى محمود وفي يده الموسيقار (علي إسماعيل) مؤكدا انه هو الشخص الذى يبحثان عنه..
شرح محمود لعلى إسماعيل رؤيته للفرقة واصطحبه إلى بروفاتها لبعض الرقصات.. سجل (علي إسماعيل) في بعض الوراق إيقاعات الحركات التي ترسمها خطوات الراقصين ووعدهم بتقديم الموسيقى في اقرب وقت..
بعد أسبوعين لم يقدم (علي إسماعيل) الموسيقى فأسرع محمود بالبحث عنه ليجده في المستشفى مصاحبا لابنه الذى يجرى عملية جراحية وقد ارتدى (علي إسماعيل) في المستشفى جلبابا منكبا على نوتاته الموسيقية، وقد أوشك على الانتهاء من موسيقى العرض الأول لفرقة رضا..
دوى نجاح العرض الأول.. رفض (علي إسماعيل) أن يتقاضى أي أجر حتى تغطى الفرقة كامل تكاليفها، وبعد أن يقبض جميع أفرادها أجورهم.. بدأ (علي إسماعيل) هو الآخر يجوب مصر مستلهما موسيقاها الشعبية من الموالد والأفراح والطهور والمناسبات الدينية و الاجتماعية المختلفة..
وأصر أن يكون لفرقة رضا ليس مجرد فرقة موسيقة عادية وإنما أوركسترا شرقية يقودها بنفسه كل عرض.. أوركسترا تتناغم فيه الآلات الغربية من درامز و نحاسيات و آلات نفخ بإيقاع شرقى تصاحبهم الآلات الشرقية من عود وقانون وأوكارديون ورق..
لم يكن (علي إسماعيل) يضع الموسيقى لتاتى بعدها الخطوات كالمعتاد وإنما كان يضع الموسيقى للخطوات المعبرة ومن وحى إيقاع هذه الخطوات..
محمود رضا يتحدى ثروت عكاشة
ذهب (محمود رضا) إلى مكتب وزير الثقافة ثروت عكاشة بعد أن حدد له موعدا لتخصيص مسرح للفرقة.. انتظر محمود في مكتب عكاشة الذى تأخر لأكثر من ثلاث ساعات لينصرف محمود غاضبا.. وحينما علم عكاشه بانصرافه غضب هو الآخر وأعلن عليه الحرب في كل اتجاه..
اشتكى (محمود رضا) الى عبد الناصر فازداد غضب عكاشة واتفق في نفس الأسبوع مع مختصين روس لإقامة الفرقة القومية بكامل الدعم لمنافسة (فرقة رضا).. في تحد لتعنت عكاشة استأجر (محمود وعلي) مسرح نقابة المهندسين.
وعلى خشبته توالت عروضه لعشر سنوات كاملة متفجرة بالنجاحات التى أجبرت الجميع على الاعتراف بها.. تدفقت العروض على الفرقة للسفر بالخارج وفي ألمانيا تقابلوا مع عبد الناصر الذى شجعته ردود الفعل الألمانية على تقديم الدعم الكامل للفرقة حتى تم ضمها بعد ذلك الى الدولة..
وقد كان أهم دعائم هذا النجاح الساحق هى موسيقى (علي إسماعيل) لكل رقصات الفرقة، وقد بلغ الإعجاب بموسيقاه أن عرضت عليه كل من فرنسا و ألمانيا الهجرة اليهما ومنحه الجنسية، لكنه رفض لعدم قدرته على مفارقة مصر عائدا مع الفرقة..
التفتت السينما الى أضواء (فرقة رضا) واجتذبتهم لبطولة أول وآخر فيليمن على مستوى العالم تكون البطولة المطلقة للفيلم لفرقة راقصة، رغم نجاح الفيليمن.. فيلم (أجازة نصف العام) و فيلم (غرام في الكرنك)..
كانت إبداعات (علي إسماعيل) في الفيلمين طاغية وعديدة.. منها مثلا رقصة أرادت فيها (فريدة فهمي) تقديم نفسها للفرقة كراقصة، وكانت البداية إيقاعات بندول ساعة لترقص (فريدة) على إيقاعاتها لتشارك الطبلة بعد ذلك ثم يتحمس البيانو بعزف إيقاعاته لتتطور الرقصة الفردية الى جماعية من الآلات والراقصين.
فتنطق كل مكونات المشهد الحية والجامدة بالإيقاعات والرقص.. كذلك عند بناء المسرح في القصر حيث استغل (علي إسماعيل) كل ماله إيقاع ليشارك في الاستعراض .. دقات الشواكيش على رؤوس المسامير.. القاء الواح الخشب و تراصها و ترتيبها..
أيضا في استعراض (حلاوة شمسنا) الذى بدأ بموسيقى وترية حالمة تصاحب حلم الراقص الشاب وسط التماثيل الفرعونية الضخمة ليجتاز الزمن، فيقابل موسيقى ملكية فخمة تصاحب رؤيته للملك الفرعونى (أمين الهنيدي) محمولا على الأعناق، وعند جلوسه على كرسى الحكم تنطلق واحدة من أروع الموسيقات الراقصة المصرية.
في تمازج عبقرى بين فرحة القانون وحزن الناى و طربية الصاجات لترتفع البهجة بدخول صوت المجموعة تغنى (حلاوة شمسنا) والتى يستمر (علي إسماعيل) في تخلل ثناياها بلفتاته العبقرية، مثل إيقاع فرقعة أصابع الراقصات لتصبح مرة تنبيها للملك ومرة سخرية منه.
حتى أنه اندمج في طربها لتنتهى الأغنية بينما الملك في فرح طفولى مستمرا في محاولاته تقليد الطرقعة الموسيقية بأصابعه..