بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
أندرية راديدر.. الأب الروحى لـ (على إسماعيل).. القمر الذى كان يطمح دوما لركوب مركبة الفن و الهبوط على سطحه..
كانت حياة (على إسماعيل) مراحلا لتحقيق هذا الصعود حتى أصبح بالفعل الوريث الشرعى والامتداد الحقيقى لأندريه رايدر.. سواء كموزع موسيقى أو كمؤلف للموسيقى التصويرية..
خاصة بعد أن تم اختيار أندريه رايدر كأفضل مؤلف موسيقى تصويرية في مئوية السينما المصرية..
ولد (أندرية رايدر) في اليونان .. عاش معظم حياته في مصر.. زمن التنوع الحضارى والثقافي والفني.. حصل على الجنسية المصرية بقرار رئاسي لجمال عبد الناصر عام 1970 تقديرا لفنه..
قام (رايدر) بالتوزيع الموسيقى للعديد من كبار مطربى مصر.. لمحمد عبد الوهاب وزع العديد من الأغانى مثل (لأ مش أنا اللى أبكي).. ولعبد الحليم حافظ (أنا لك على طول، أهواك، جبار)..
و(رايدر) هو المايسترو الوحيد الذى قاد فرقة موسيقية وراء أم كلثوم في أغنيتها (على باب مصر، و الله زمان يا سلاحي)، التي استمرت كسلام وطنى لمصر منذ عام 1960 و حتى عام 1979 ..
وقد اعتنق (رايدر) الإسلام على يدى الشيخ إبراهيم أبو خليل حينما كان يذهب مع الفنان فريد شوقى للاستماع الى ابتهالاته و أناشيده الدينية التي كان يحييها في حى السيدة..
قبل (أندرية رايدر) كانت الموسيقى التصويرية للأفلام المصرية مجرد مختارات و مقتطفات من السيمفونيات و المقطوعات الموسيقية العالمية.. فكانت أشبه بزراعة عضو غريب في الجسم الذى يحاول طرده.
ليبدا (أندرية رايدر) كأول من يضع موسيقى نابعة من طبيعة دراما الموقف الخاص بكل مشهد و من خلجات الأحاسيس الخاصة بكل شخصية حسب تفاعلاتها في المشهد.. و قد ألف الموسيقى التصويرية لـ 61 فيلما منها دعاء الكروان، نهر الحب، غروب و شروق، الرجل الثاني، حكاية حب.
أندرية يلتقى (علي إسماعيل)
سمع (أندرية رايدر) بتميز (علي إسماعيل) كعازف في الملاهي الليلية فأسرع للاستماع إليه واستكشاف مكنونات موهبته.. أثناء سماعه تكشفت له قدرات (على إسماعيل) التي أبهرت رواد الصالة.. بعد انتهاء العرض ذهب إليه (أندرية) محييا وعرض عليه التعاون معه.. يمثل هذا اللقاء الباب الملكي الذى اجتازه (علي إسماعيل) والدخول منه إلى عالم جديد رحب المساحة.. خالي تقريبا من الرواد.. عالم الموسيقى التصويرية للسينما..
تعلم (علي إسماعيل) من رايدر التوظيف الأوركسترالي الضخم للتعبير الدرامى عن مجريات الموقف وانفعالات وأحاسيس الشخصيات بمزيج دقيق النسب بين الموسيقى الشرقية والغربية بما يتوافق مع الطبيعة الدرامية الخاصة بكل مشهد..
بلغ تأثر (علي إسماعيل) بأندريه رايد أن ابنته (شجون) قد دخلت عليه يشاهد أغنية (جبار) لعبد الحليم حافظ في التليفزيون بينما الدموع تنهمر من عينيه.. سألته عن سر هذه الدموع فأشار إلى التليفزيون معقبا (شوفى عظمة أندريه في التوزيع عامله إزاى!)..
نهاية مأساوية
بينما (أندرية رايدر) في تشيلى يقضى إحدى الأمسيات في إحدى الملاهى يستمع للموسيقى طلب من النادل فنجانا من القهوة.. اعتذر النادل عن عدم توفر القهوة في هذا الملهى.. تدخلت فتاة بأنها أيضا تريد احتساء القهوة وانها تعرف ملهى آخر يقدمها..
اصطحبها (أندرية) خارجا وبينما يمران بمزرعة مجاورة للملهى هاجمهما خمسة من اللصوص لسرقة ما معهما بالإكراه.. رفض (أندرية) الخضوع لهم فاشتبك معهم وتبادلوا اطلاق النار.. ورغم تقدمه سنا فقد أصاب بعضهم وتمت في النهاية إصابته إصابة بالغة نقل على أثرها الى المستشفى ..
ليظل طريح الفراش يومين كاملين صامتا يتأمل الفراغ غير مصدق لما تعرض له على تقدم سنه ومكانته الفنية العالمية وموسيقاه التي تعبر عن فيض حبه للإنسانية التي خذلته ليسلم روحه في اليوم الثالث.. مخلفا في قلب (علي إسماعيل) جرحا غائرا الى جانب جرح لم يلتئم بعد وهو وفاة جمال عبد الناصر..
ساحر الموسيقى التصويرية
وضع (علي إسماعيل) الموسيقى التصويرية لأكثر من 350 فيلما مصريا.. و من يشاهد له فيلما لا تبرح موسيقاه التصويرية أن تلتصق بالذاكرة و الأحاسيس..
لنا أن نستدعى منها الموسيقى التصويرية و التوزيع الموسيقى للأغانى التي صاحبت أي من أفلامه مثل الأيدى الناعمة لصباح – معبودة الجماهير لشادية و عبد الحليم – العصفور و الاختيار ليوسف شاهين .. حكايتى مع الزمان لورده – ثرثرة فوق النيل..
أبى فوق الشجرة لعبد الحليم – الأرض للمليجى – صغيرة على الحب لسعاد حسنى – قصر الشوق – بين القصرين – مراتى مدير عام لشادية – أدهم الشرقاوى – هارب من الزواج لفؤاد المهندس – زقاق المدق – عروس النيل لرشدى أباظه – أجازة نصف السنه وغرام في الكرنك لفرقة رضا – الخطايا لعبد الحليم حافظ .
الشموع السوداء لنجاة – المظ و عبد ه الحامولى لوردة – آه من حواء لرشدى أباظه – السفيرة عزيزة لسعاد حسنى – عنتر بن شداد لفريد شوقى – وإسلاماه – يوم من عمرى لعبد الحليم حافظ – البنات و الصيف – وغزل البنات وغيرهم..
إذا عدنا لليوتيوب للاستماع إلى الموسيقى التصويرة لبعض هذه الأفلام سندرك على الفور مدى تغلغل (علي إسماعيل) في التكوين الفني لأرواحنا.. ومدى السعادة الفنية والتأثيرات التي أسبغها على حياتنا ونحن نشاهد هذه الأعمال على تنوعها من كوميدى إلى دينى إلى وطني إلى مأساوي..
عند سماعنا لأغانى (أبى فوق الشجرة) نطير مع توزيع (الهوى هوايا) لنبنى للحبيب قصر عالى و نخطف نجم الليالي.. ثم نسير بأقدام حافية على الشوك فنقطر حزنا وألم ثم ننتقل إلى الشاطئ وسط الأصدقاء و مرح الشباب نشاركهم دق الشماسى والتقاضى أمام قاضى البلاج..
في فيلم (الاختيار) ليوسف شاهين استطاع (علي إسماعيل) شحن موسيقاه بالتوتر المصاحب لأحداث الفيلم و الذى يدور حول اكتشاف جثة رجل بينما تحيط الشكوك بأخيه .. تتفاقم الشكوك أكثر حول وجود اخ أصلا أو حتى قتيل..
بل و إنه لا يوجد أخين و إنما هما شخص واحد يحاول إيهام المحيطين بأنه شخصين لأغراض في نفسه.. و قد استطاع (علي إسماعيل) ببراعة هائلة تجسيد كل هذه التوترات ونقل الاضطراب النفسى و الذهنى للبطل إلى المشاهد..
ولا ننسى في فيلم الأرض الآهات الحزينة للناى ممزوجة بالنحاسيات الصاخبة المعبرة عن النهوض المستمر للكرامة مهما تعرضت للضغوط..
كان الناى بلوعته يمزق القلوب و يخمش الروح بأظافر من زجاج معبرا عن دواخل الفلاح المصرى المجسد في شخصية أبو سويلم بكل ما يتطاحن في أعماقه من إحساسه بكرامته، ومحاولاته المستمرة للأخذ بيد المتخاذلين وحثهم دائما على الدفاع عن الأرض و العرض، ومحاولاته المستمرة لمقاومة الانسحاق الكامل تحت وطأة الفقر والتسلط.
وكان التعبير الموسيقى دائما معبرا عن كل خلجاته في كلامه.. شاحنا حتى صمته ببلاغة تعبيرية أشد وطأة من أي حوار بالكلمات..
وتأتى ذروة التعبير في اللطمة الأخيرة على وجهه ليسقط صامتا وسط عيدان القطن بينما توثق الحبال قدميه و بدا المأمور في جره بالحصان وهو يتشبث صامتا بالأرض وبأعواد القطن تحيطه صامتة نظرات يملأها هول المشهد والعجز عن التدخل من عيون ابنته و خطيبها و الفلاحين اللذين كان يمثل لهم أبو سويلم الفنار المضئ على الشاطئ البعيد وسط بحر الظلمة..
المشهد صامت تماما دون كلمة وترك (يوسف شاهين) الحوار كاملا لموسيقى (علي إسماعيل) ليحفر بها في الأعماق أخدودا ما زالت تجرى مياهه دما إلى الآن.. وقد تدخلت المجموعة صائحة في قوة بكلمات زوجته (نبيلة قنديل) المشحونة بالألم والإصرار على النهوض الأبدى تصرخ في وجه الظالم :
(الأرض لو عطشانة.. نرويها بدمانا
عهد علينا أمانة.. تصبح بالخير مليانة).