بقلم الكاتب الصحفي: أحمد السماحي
ونحن نودع آخر أيام عام 2024 بكل مشاكلها، وأزماتها، وحروبها، وأفراحها، وأتراحها، ودعنا معها علم من أعلام الكتابة السينمائية، هو الكاتب والمخرج السينمائي (بشير الديك).
والذي كان واحدا من أفضل الكتاب الذين عبروا عن الشخصية المصرية بكل قوتها، وضعفها الإنساني مهما كانت سطواتها أو علو مكانتها.
وإن كان (بشير الديك) اليوم في سجل الخالدين، فإن أفلامه ستظل تنبض بالحياة، ولن تموت، لأنه من خلال هذه الأفلام كان صادقا وواعيا بملامح المواطن المصري والعربي بأبعاده ومدلوله الواعي الذي يستأثر بمجامع القلوب، ويستحوذ على الألباب.
عاش (بشير الديك) لمناقشة الواقع المصري من خلال أفلامه، منفعلا مع الوعي العربي واليقظة القومية فانطلق قلمه يستنطق الشخصيات المصرية لتأخذ مكانها الواعي في إطار من مسار الحياة الواقعية الرافضة للتفكك والانهزامية أحيانا، والمحبطة أحيانا أخرى، والتى تحاول تغيير واقعها في كثير من الأحيان.
رحل (بشير الديك) لأن الموت علينا حق، وإنه كان سيموت في يوم من الأيام، بحكم كبر سنه، لكن (بشير الديك) مات قبل رحيله بسنوات عندما تعرض للإهمال والنسيان من المسئولين عن الفن في السنوات الأخيرة.
بشير الديك و(ملك الترسو)
قبل رحيل مبدعنا الكبير (بشير الديك) بفترة قصيرة كان بيني وبينه اتصال هاتفي كنت أسأله فيه عن سر عدم خروج مسلسل (وحش الشاشة، أو ملك الترسو) الذي كان يكتبه عن قصة حياة (فريد شوقي) للنور!
فوجدته مهموما وحاول أن يرسم البسمة على شفاهه، فقال لي: أنت لسه فاكر؟!.. ده كان مشروع بيني وبين المنتجة (ناهد فريد شوقي)، لكنه توقف لأسباب كثيرة لا أريد الحديث عنها حاليا!
فقلت له هل الشركة المنتجة التى تتولى الإنتاج حاليا لم تطلبه منك أو غيره من أعمال درامية لتحويلها إلى مسلسلات؟، فقال لي بخجل شديد وتواضع: يجوز أعتقدوا أنني كبرت في السن، ولم أعد قادرا على الكتابة!.. عموما أنا شبعت كتابة ولم أعد في حاجة للكتابة لهم أو غيرهم!
وحاول أن يغير الموضوع وقال لي: سيبك أنت مني!، أنا معجب جدا ببوابتكم (شهريار النجوم) والجرأة التى تكتبون بها، كما أنكم تكتبون بشكل مختلف ومتميز عن ما نقرأه اليوم في كثير من المواقع والصحف، فشكرته وأغلقت الهاتف.
بشير الديك والإهمال
المثير والغريب أن الأهمال الذي عانى منه (بشير الديك) في سنواته الأخيرة، عانى منه وهو في أيامه الأخيرة، حيث تعرض مؤخرا لأزمة صحية خطيرة، مما استدعى نقله إلى المستشفى.
وأكدت (دينا) ابنته في تصريحات صحفية أن والدها تعرض للإهمال في المستشفى الذي كان يتلقى العلاج فيه، ما أدى إلى تدهور حالته الصحية.
ونفس الصرخة أطلقتها النجمة الكبيرة (نادية الجندي) في مداخلة تليفونية مع أحد البرامج الفضائية، حيث صرحت أنه في حالة حرجة للغاية، ولا يستجيب للعلاج ويعاني من مشاكل في الكلى والقلب، ويجب نقله من المستشفى التى يعالج فيها لأنه يتعرض فيها للإهمال!
وتفاقمت حالته سوء إثر تناول دواء عن طريق الخطأ، ما أدى إلى فقدانه الوعي تماماً واضطراره إلى استخدام جهاز التنفس الصناعي.
التنقل بين دمياط والمنصورة
ولد (بشير صديق الديك) في السابع والعشرين من شهر يوليو عام 1944، فى قرية (الخياطة) إحدى قرى محافظة دمياط، لأب موظف يتنقل بين المحافظات، لهذا انتقل إلى مدينة المنصورة وأخذ معه أسرته.
وفي سن الثالثة كان لمبدعنا (خالة) تجيد فن القص، فكانت تحكي له قصص وحواديت من (ألف ليلة وليلة)، وغيرها من الأساطير والقصص.
وعندما بلغ (بشير الديك) سن الثامنة قامت ثورة يوليو 1952 فغيرت مفاهيمه لكلمات كثيرة، واشتهر في هذه الفترة بحبه الشديد للغة العربية، وبعد سنوات وبالتحديد عام 1956 حدث العدوان الثلاثي على مصر.
وعلى أثر هذا العدوان اجتاحت المظاهرات المحافظات والمدن المصرية احتجاجا على العدوان الغاشم، فخرج (بشير الديك) في هذه المظاهرات، وفي هذه السن عاد مرة آخرى إلى بلدته (الخياطة) وأكمل تعليمه الإعدادي، ثم الثانوي.
وفي تلك الفترة لم يجد (بشير الديك) ما يسلي به نفسه ويملأ أوقات فراعه إلا القراءة، فقرأ كتب الأدب الشهيرة في هذا الوقت مثل (العبرات) و(النظرات)، و(ماجدولين)، وغيرها.
وبعد حصوله على الثانوية العامة، ترك دمياط، والتحق بكلية التجارة، وكان وجوده في القاهرة والالتحاق بالمدينة الجامعية فرصة ليواصل هواية القراءة، وتعرف في هذه الفترة على الأدب الروسي.
فقرأ لكبار الكتاب الروس من أمثال (تولستوي) و(ديستوفيسكي)، و(أنطوان تشيكوف) وغيرهم، لكن الرواية التى هزت وجدانه هي رواية (الدون الهادئ) للكاتب الكبير ميخائيل شولخوف.
وفي تلك الفترة عرف السينما، فكان يرتاد دور العرض الموجودة في شارع عماد الدين، وكانت أوقاته موزعة بين الدراسة في الجامعة، والقراءة ومشاهدة الأفلام.
مراسلة المجلات المصرية والعربية
تخرج (بشير الديك) من الجامعة عام 1966، بعد أن قرأ كثير من الأدب المصري والعالمي، وبعد تخرجه عاد مرة أخرى إلى بلدته في دمياط، وبدأ يكتب القصة، ويراسل الصفحات الأدبية في الجرائد والمجلات المصرية والعربية، وبالفعل نشر قصة في مجلة (المجلة) التى كان يرأسها الأديب (يحيي حقي).
كما كتب قصص لمجلة (الثورة) العراقية، و(الآداب) البيروتية، وانضم لجماعة أدبية كانت تعرف بـ (جاليري 68) أسسها (جمال عطية إبراهيم)، وكان من أعضائها كلا من (إبراهيم أصلان، وإبراهيم منصور، ومحمود الورداني).
زائر المدينة الميتة
بعد نكسة يونيو 1967، كتب (بشير الديك) قصة سينمائية بعنوان (زائر المدينة الميتة) مستوحاة من رواية (جاتسبي العظيم) للكاتب الأمريكي (سكوت فيتزجيرالد)، وفي تلك الفترة صادف أن المخرج (علي عبدالخالق) كان يخرج أول أفلامه الروائية (أغنية على الممر) في دمياط، وقرر أن يعرض ما كتبه على (عبدالخالق).
وذهب فعلا إلى مقهى (أناستاسيا) حيث كانوا يجتمعون، ووجد كاتب السيناريو (مصطفى محرم) يجلس مع الفنان (صلاح السعدني) يناقشان المصور، في تفاصيل بعض المشاهد.
وطالت المناقشة، فما كان من (بشير الديك) أن أنسحب دون أن يقابل علي عبدالخالق، ولم يترك الورق مع أحد.
أثناء ذلك أنتقل (بشير الديك) إلى القاهرة مع زوجته، ليعمل موظفا في وزارة التربية والتعليم، وكان يتردد على أحد معارفه الذي يمتلك محلا لبيع الأثاثات الذي كان يعلم بموهبته في الكتابة السينمائية.
فأخبره أن من بين زبائنه إمرأة طيبة، إحدى بناتها متزوجة من المخرج أحمد طنطاوي، والأخرى متزوجة من السيناريست مصطفى محرم، وأنه حادثها بشأنه.
وتركه (بشير الديك)، وذهب إلى شقته وأحضر القصة السينمائية التى كان يريد إعطائها للمخرج علي عبدالخالق، وطلب منه أن ترسلها إلى مصطفى محرم ليعطيها إلى علي عبدالخالق.
كواليس (مع سبق الإصرار)
ولظروف طارئة رجع (بشير الديك) إلى بلدته دمياط، وعندما عاد وجد (مصطفى محرم، وعلي عبدالخالق) في انتظاره على أحر من الجمر للبدء في تنفيذ العمل، على أن يكتب مصطفى محرم السيناريو، ويكتب بشير الديك الحوار.
لكن يا فرحة ما تمت! فقد حدثت مشكلة للمخرج (علي عبدالخالق) مع النظام الحاكم في هذه الفترة، وتم إبعاده من إخراج أي عمل بحجة أنه يساري وناصري.
وعندما عرض عليه (علي عبدالخالق) البحث عن مخرج آخر، رفض بقوة، وقال له أنه سينتظره حتى تحل مشكلته مع النظام، ويعود مجددا للإخراج.
وأثناء ذلك عرض مصطفى محرم على (بشير الديك) مجموعة قصصية بعنوان (المقامر) للكاتب الروسي (ديستوفيسكي) لكي يقوم بكتابة المعالجة السينمائية لقصة (المقامر)، على أن يكتب لها هو السيناريو، وبشير الحوار.
لكن (بشير الديك) وقع اختياره على قصة أخرى بعنوان (الزوج الخالد) في نهاية المجموعة القصصية (المقامر)، وكتب لها المعالجة السينمائية، وبعد أن قرأها مصطفى محرم تحمس لها جدا.
وبدأت جلسات العمل مع المخرج (أشرف فهمي) الذي رشح لبطولة القصة (محمود ياسين، نور الشريف، ميرفت أمين، توفيق الدقن، هدى رمزي) وغيرهم.
وخرجت هذه القصة عام 1979 تحت عنوان (مع سبق الإصرار)، وحققت نجاحا جيدا، جعل إسم بشير الديك يتردد بقوة في الوسط الفني حتى أنه خرج له في نفس العام فيلمي (ولا يزال التحقيق مستمرا) و(تمضي الأحزان)، بعدها توالت أعماله الرائعة.
(أيام الغضب) و(ليلة ساخنة)
على مدى 40 عاما منذ أول أفلامه (مع سبق الإصرار) عام 1979 إخراج أشرف فهمي، إلى آخر أفلامه (الفارس والأميرة) عام 2020 تأليفه وإخراجه، ملأ (بشير الديك) الحياة السينمائية والفنية بشخصيات مصرية صميمة تشع منها الروح المصرية في كل تصرفاتها من ذكاء، ومكر، وخبث، وطيبة، وشهامة، وجدعنة، وفهلوة.
فكتب أفلام (مع سبق الإصرار، وتمضي الأحزان، وولا يزال التحقيق مستمرا، أبو البنات، الرغبة، الأبالسة، سأعود بلا دموع، موعد على العشاء، طائر على الطريق، السلخانة، المحاكمة.
والأقوياء، سواق الأتوبيس، نص أرنب، مرزوقة، إن ربك لبالمرصاد، الحريف، النمر الأسود، الطوفان، بيت الكوامل، الضائعة، سكر سفر، لعبة الكبار، ضربة معلم، أيام الغضب.
والإرهاب، شبكة الموت، الهروب، عصر القوة، سيدة القاهرة، ناجي العلي، مهمة في تل أبيب، ضد الحكومة، الشطار، حكمت فهمي، زيارة السيد الرئيس، إمرأة هزت عرش مصر، نزوة.
وليلة ساخنة، يوسف وزينب، حسن اللول، حلق حوش، جبر الخواطر، كلام الليل، أبناء الشيطان، خمس نجوم، الكبار، الفارس والأميرة).
وفي مجال الدراما التليفزيونية كتب مسلسلات (الأرض الطيبة، بنات زينب، آن الأوان، الحفار، حب تحت الحراسة، الناس في كفر عسكر، درب الطيب، أماكن في القلب، ظل المحارب، حرب الجواسيس، عابد كرمان، الطوفان).
فارس من الزمن القديم
كان (بشير الديك) يملأ الوجود صدقا ونبلا ويعامل الجميع على طريقة فرسان الزمن القديم، وبشهامة أهل الريف، ولو أمضينا ساعات في الحديث والكتابة عن أعمال بشير الديك فلن نكف عن الكلام، ولا الكتابة.
رحم الله المبدع (بشير الديك) وسلوتنا أن أفلامه ومسلسلاته موجودة وتعرض بصفة منتظمة وكل ما نشتاق إليه سنشاهد أحد هذه الأفلام والمسلسلات لنتذكر أن مصر مر كان بها عملاق لم تحتضنه ولم تعرف قدره جيدا اسمه (بشير الديك) الذي رحل عن عالمنا أمس.