بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
كنت ما زلت دائخا تحت أثر الصدمة.. كيف استطاع مثل هذا الرجل أن يخدع جميع من في سجن (طرة)؟.. أن تنطلى على عقولنا سذاجته المفتعلة وطيبته المزيفة ؟.. مسكنته وضعفه المثير لشفقة الجميع ..
معظمنا كتاب وشعراء و سياسيون وأصحاب فكر.. كيف استطاع هذا الثعبان في جلبابه القديم وسحنته الغارقة في الشقاء أن يغافل كل هذه العقول.. أن يدعى الجهل والسطحية بينما في الخفاء يلتهم الكتب قراءة و تحليلا.. لابد من هتك سره.
انتظرته في زاوية تحت السور.. لمحته خارجا من زنزانته الانفرادية في (طرة) دون أن يتلفت.. ماضيا بخطواته المنكسرة نحو الزاوية البعيدة من السور.. برأسه الملفوفة في منديل محلاوى كأنها حبة قلقاس ضخمة يعلوها عقد طينية كونها انتزعت لتوها من أرض السبخة.
كانت القلقاسة في المنديل المحلاوى كأنها محمولة في جراب في طريقها إلى وابور جاز يشتعل شوقا لطهيها.. من بين طيات ملابسه أخرج بعض الكتب.. مشرئبا بعنقه إلى البعيد تلفت يمينا و يسارا.. اتكأ جالسا يتصفح الكتاب الأول.. رغم الشمس الحارقة كان منهمكا في القراءة..
يقلب الصفحات في تأن وتفكر عميق..انتهى من تصفح الكتاب الأول متناولا الثانى.. متأملا عنوانه في تدبر ليبدا في فتح الغلاف وكأنه موغل في مغارة يسبر أغوارها.. تأكدت ممن استنتاجي..
هو رجل امن محترف.. استطاعوا زرعه بيننا ليرسل لهم بالتقارير عنا.. ما لم يصلوا إليه منا في التحقيقات يسربها إليهم وأكثر هذا المخادع ببساطته و ادعاء جهله وضعفه..
المشكلة أنه يكرهنى إلى حد كاف لأن يملأ تقاريره عنى بكل الضغائن.. شعرت أن البئر قد ازداد قاعه عمقا وازدادت جدرانه التى أحاول تسلقها ملاسة ونعومة..
خداع رجل شرطة
كنت أتابع في دهشه انغماسه الشديد فيما يقرأ.. لم ألمح بين أصابعه قلما منذ ولوجه عنابر (طرة).. لا أنكر إعجابي في هذه اللحظة بقدراته كرجل شرطة على المداهنة والخداع، وكسر طوق الحرص والحذر الذى نجمع فيما يشبه اللغة السرية بيننا على فرضه حولنا..
حاولت تذكر أي علامات لأى مميزات نالها في الفترة الماضية تفضح تعاونه وإدارة سجن (طرة).. انبثقت في الذاكرة صورتى وأنا في انتظار زيارة والدى ووالدتي بالسجن..
كنت استعد لوصولهم بتجهيز بعض الساندويتشات كتحية لهم بعد عناء شديد في القطارات و التشتت بين أرقام الأوتوبيسات المزدحمة وما يعقبه من سير على الأقدام المسنة المتعبة حتى الوصول الى البوابات لتبدا معاناة الانتظار الطويل الذى يتعمد (عبد العال سلومة) إذلالهم خلاله بمختلف أنواع الصفاقات و التجاهل..
لاحظت هذا النهار وجود (عم عباس المغربي) في انتظار زيارة زوجته في مكان مجاور.. يجلس معها مرتديا جلبابه الذى لم يغسله من طبقات التراب والبقع منذ قدومه..
فقد رفض بشكل هيستيرى ارتداء بدلة السجن لأنه لم يعرف من قبل ارتداء البيجامات.. لاحظت أنه لم يقدم لزوجته المتعبة أي تحية.. حملت بعض الساندويتشات ووضعتها في صمت مجامل على الترابيزة بينهم..
قبل أن ألتفت مغادرا كان (المغربي) قد أطاح بالساندويتشات بعيدا في عنف غاضب رافضا التحية.. في نهاية الزيارة التي انخرط خلالها في البكاء طويلا جاءه الضابط بأوراق الإفادة بإتمام الزيارة ليوقع عليها فيصرخ من بين نحيبه :
هو البعيد أعمى؟.. أنا لاعمرى قريت كلمة ولا كتبت حرف يبقى أمضى ازاى يعنى.. هاتلى بصامه يا جدع انت .
كنت أتذكر أصابعه التي يدفعها في حبر البصامة وأنا مازلت في مخبئى تحت السور أراقب نهمه في القراءة.. تذكرت ضحكة الضابط و هو يدفع أمامه بالبصامة.. بالتأكيد هى ضحكة إعجاب بإتقان زميله للدور لم يستطع إخفائها فانفلتت منه لتفضح لي الآن جانبا من التمثيلية المتقنة..
تور الله في برسيمه
أو قد يكون ضحكه على السذاجة المفتعلة وقد انطلت عليه هو الآخر بينما المغربى قد تم دسه علينا وعلى كل الرتب بإدارة المعتقل أيضا.. تردد في ذاكرتى صدى صوت (المغربى) وهو يصرخ في صالة الزيارة الواسعة مرددا بين نحيبه:
دا أنا واحده شافتنى ع الطريق وهما سحبانى زى البهايم والحديد في إيدى وهى بتقول للى جنبها: دا واخدينه ليه هو راخر.. دا تور الله في برسيمه.. و الله العظيم أنا تور الله في برسيمه يا ولية.. أنا تور الله في برسيمه يا سعادة البيه.. أنا تور الله في برسيمه يا جدعاااان ..
لابد أن أحذر الجميع من هذا المندس.. أن نفكر جميعا كيف سنتعامل مع هذه المصيبة.. كان لابد لى أن أراقبه كظله.. في إحدى جولات المراقبة كانت المفاجأة.. (عباس المغربي) يتردد بشكل منتظم على عنبر اليهود.. يتعامل معهم بأريحية غريبة..
يسأل بشغف من يطمئن على الأحوال عن من عليه الدور في الإفراج عنه والخروج من هؤلاء اليهود.. فقد قدم لهم عبد الناصر عرضا أن كل من يتنازل منهم عن أملاكه في مصر سيتم الإفراج عنه فورا بشرط أن يخرج من المعتقل الى مطار القاهرة و منه الى الدولة التي ترغب في استقباله ..
أسرعت بالخبر إلى بعض عساكر النبطشية.. داهمتهم ظنونى بأشد قسوة.. فهم أيضا كانوا تحت أنظاره أثناء النبطشيات.. بالتأكيد قد سجل عليهم بعض الإهمال مثل التدخين وسماع الأغانى .. أحكموا هم الآخرين مراقبته ليخبرنى بعضهم بالمفاجأة..
الكتب التي كان يتصفحها (المغربي) هى كتب جنسية مصورة.. أطلت ظنون جديدة في رأسى.. فقد يكون المغربى قد كشف مراقبة جنود الحراسة لهم فأطلعهم على مهمته واتفق معهم على تسريب السر المفتعل.. لابد من التأكد بنفسى.. توجهت إلى عنبر اليهود أسألهم عن سر تردد هذا الضابط السرى لديهم.. أغرقوا جميعا ف الضحك ..
ضابط سرى؟.. ههههه.. دا جدع غلبان .
طب ايه اللى بيجيبه عندكم كل يوم؟
بيشوف مين فينا عليه الدور في الخروج وهيسيب حاجته فبياخد منها اللى هوه عاوزه
بيشحت الهدوم وكده يعنى؟
بيرفض ياخد أى حاجه غير المجلات اللى فيها صور ستات عريانة.. وأوضاع من إياها.. دا بقى مدمن مجلات.
خرجت من عنبر اليهود أفكر.. كيف تحول هذا الرجل المتدين إلى مدمن للمجلات الجنسية.. هل مات فيه الإنسان و ما بقى منه هو حيوانه؟.. هل هو انفصام حاد في الشخصية؟
أتذكر أنى تركت (طرة) بعد الإفراج عنى تاركا (عم عباس المغربي) خلف أسواره العالية.. تتردد بداخلى كلماته عن سبب اقتياده للسجن – والله يا إبراهيم أفندى كل اللى حصل انى استلفت من جدع نقدية.. كم ملطوش.. ولما اتأخرت في تسديدهم شتمنى.. ضربته.. وعشان حظى الأغبر طلع شغال في منظمة الشباب.. هبدنى تقرير انى بشتم ليبيا وروسيا ..
وانت شتمت ليبيا يا عم عباس؟
أنا أصلا ما اعرفش حد اسمه ليبيا.. والقطر لفيت به كل ناحيه ما شفتش حته اسمها ليبيا
طب وروسيا؟
هو أنا اتجنتت علشان اشتم روسيا اللى بتجيب لنا السمك الروسى الرخيص؟!
قبل الزيارة.. دموعي. نزلت سخنة
إيه اللى خلى الدنيا تعرج يا ابه
قول الحقيقة فى السجون دوخنا
خلانا نصبح فى الضلامة غلابة
……………………………………
هات الكراسى .. وهات معاك ترابيزة
هات العصير يا صاحبي للى هاييجوا
ما يجيش هنا.. إلا عزيز وعزيزة
بعد المحيط ما انداس بغول أمواجُه
……………………………………
يا زيارة باستناكى.. نفسي تجيني
وأديكى جيتى لاجل أهرب بيكي
الدمعة مش قادرة تفارق عيني
ساعة ما قلت لأمي.. آه.. خليكي
……………………………………
إسمي اتنده فى الميكرفون امبارح
والله حتى ما نمت نص دقيقة
آه يا زمان العتمه.. سجنك جارح
وانداس فى ليلك.. كل حاجة مضيئة
……………………………………
هاتي معاكى يا أمى أكلة فى نفسي
وخديني فوق صدرك.. أفوق م التوهة
ضاعت مع المساجين سمايا وشمسى
وخدتنى للزنازين.. إيدين نداهة
……………………………………
يا ابه.. يا عينى عليك وليدك ضايع
جوه سجون الغولة والمحروسة
عمره ما كان خاين أبوه.. أو بايع
طب ليه فى لحظة علقوه فى (عروسه)
……………………………………
(أنسوك) يقولها لىّ كل العنبر
وأنا والدموع ع (البُرش) لسه حزانة
الأكل هايقضى الجميع.. حتى أكتر
يمكن يفيض النص للسجانة
……………………………………
مالك يا أمي.. ليه دموعك نازلة
ماانتى بنفسك شايفة مصر معايا
ما داس علىّ.. إلا ناس متخاذلة
ما ارضوش يا أمى يمشوا لحظه ورايا
……………………………………
خُدنى يا بويا دقيقة واحدة فى حضنك
أرجوك عشان خاطرى بلاش الرعشة
مش عايز ألمح بين عيونك حزنك
ولا قشه واحدة من سطوح العشة
……………………………………
هانت.. مسير الشمس تطلع تاني
تِملى سطوحنا بالديوك الطاهرة
(شعراوي جمعة).. شخص أصله أنانى
خدني كلابه عشان حلمت ببكرة
……………………………………
خلصت زيارتك لىّ يا ابه فى لحظة
خلصت زيارتك يا امه قبل ما أجيلك
نفسي بتوب حرية .. أرجع أحظى
واصبح شموع يا مصر داخل ليلك
……………………………………
نِفسى فى يوم يا مصر آجى أزورك
وانت فى توب الدُخلة بصه علىّ
ألمح ضياكى واستحمى بنورك
وألبس فى توب الحب والحرية
……………………………………
آه يا زمان القهر إمتى هاتمشي
وتسيبنى واقف لاجل أقدر أغنى
ليه كل ما اطلب هدمه.. تيجى بنعشِّى
وتخلى سِنِّى يزيد كتير عن سِنِّى
……………………………………
بعد الزيارة يا أمي بابكي لوحدي
بعد الزيارة يابويا تيجي النومة
مين اللى هايقول القصايد بعدي
مين اللي راح تقبض عليه البومة
……………………………………
ولا عمرى هاغفر ليك إهانتك فىّ
وتعب أبويا وأمى جوه زيارة
آه يا (ولاد الكلب) يا (حرامية)
آه يا (40) جزار فى قلب مغارة
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد