رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب: الفارس النبيل.. (نبيل الحلفاوي)

بوستر مسرحية (عجبي)

بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد

عندما كتبت هنا الأسبوع قبل الماضى عن رحلتى الأولى إلى دمشق كنت أنوى أن أكتب في الأسبوع التالى عن رفقاء الرحلة ومن التقيتهم هناك، وكان في قلب الحديث وفي عين الحدث الزملاء والأصدقاء الذين شاركونى عرض (عجبي) الذى قدمناه في مهرجان دمشق المسرحى العاشر، وعلى رأسهم الفنان القدير والصديق النبيل:(نبيل الحلفاوي) الذى أعرفه منذ أكثر من 45 عاما.

كان لقائى الأول به في نادى التوفيقية مع أستاذى (حسن عبد السلام)، حيث ضمتنا بعض جلسات أثناء بروفات يجريها أستاذى هناك، وبعدها بأقل من 7 سنوات شارك (نبيل الحلفاوي) في أولى أعمالى على المسرح القومى (مسرحية عجبي) عام 1986، وخلال البروفات والسفر الى مهرجان دمشق المسرحى لنمثل مصر هناك، صرنا أصدقاء.

في بداية إعدادى للعرض كانت أمامى مشكلتين الأولى: من يجسد شخصية (صلاح جاهين)؟، والثانية من يقوم بدور درش – و هو الشخصية الأساسية في رسوم جاهين الكاريكاتيرية؟

فهما بطلى العرض: أولهما من نروى قصته والثانى هو من يرويها ويعلق على أحداثها، وتصرفات الأول تنطبع ظلالها على حياة الثاني، انهما باختصار (الفنان والشعب) إنها علاقة التأثير والتأثر المتبادلة فى جدل أزلى بين الاثنين.

كنت أبحث عن ممثل قريب الشبه بجاهين – لأن العرض تم بعد وفاته بأشهر قليلة، وفجأة تذكرت (مؤمن البرديسى) زميل قديم من ممثلى جامعة عين شمس، فهو قريب الشبه بالشاعر إلى حد بعيد، ومضيت أبحث عنه، ولكنه كان كالبحث عن أبرة فى كوم من القش، وبعد جهد كبير عثرت عليه.

كنت أراه نموذجا للمواطن المصرى بسماره الخفيف

نموذج للمواطن المصرى

أما درش فلقد عرضته على الفنان (نبيل الحلفاوى)، فقد كنت أراه نموذجا للمواطن المصرى بسماره الخفيف وملامحه التي تشبه كثيرا من تصاوير المعابد والتماثيل المصرية القديمة، إلى جانب أنه يملك موهبة تمثيلية توفر له الصدق والمصداقية. فشخصية درش (العامل على فلاح) مثقف فى غير تكلف أو تعقيد، وهو بسيط و عميق فى نفس الوقت يحمل حكمة المصريين التى صاغتها السنين والمحن، وخفة ظلهم التى يطلقونها تخفيفا عن قهرهم، ويحتالون بالصبر على ما لا يستطيعون تغييره.

وهو الرجل الذى قامت من أجله الثورة ومن إحساسه بها وبإنجازاتها كتب (صلاح جاهين) كل أشعاره، وكنت واثقا أن فى استطاعة (نبيل الحلفاوي) تصوير كل هذا وببراعة فائقة.

لا أدرى من أين جاءت الجرأة في أن أطلب نجما للعمل معي وأنا مازلت في بداية الطريق، ولكنى كنت مليئا بالأمل في موافقته.. فـ (نبيل الحلفاوي) كان نجما منذ سنوات طويلة، والغريب أن انطلاقته نحو النجومية بدأت خارج مصر عندما قام ببطولة عدة مسلسلات أذيعت قى قنوات عربية مثل (المرشدى عنتر).

ولكنه لم يكن وحده في هذه المسألة فكثير من نجومنا الكبار في تلك الفترة كانت تتاح لهم بطولات في إنتاجات غير مصرية في ستوديوهات دبي وعجمان ولا تذاع تلك الأعمال في القاهرة، ولذا اكتسبوا الشهرة هناك قبل أن يعرفهم الجمهور المصرى مثل الفنان الكبير (حسن حسني) والفنان الكبير (أحمد خليل) وغيرهما.

و بعد فترة قصيرة قدم دورا رائعا في التليفزيون المصرى في مسلسل (غوايش) هو (المعلا قانون) ليصبح حديث الناس كلهم.

كان اللقاء بـ (نبيل الحلفاوي) في المسرح القومي ولم أكن انتهيت من صياغة النص ولذا قرأت عليه معالجة مستفيضة لمسار الأحداث، و شرحت له طبيعة العمل ونوعية الشخصية التي سيؤديها، وكانت الفاجأة أنه وافق على الفور.

والحقيقة أن وجود (نبيل الحلفاوي) أضاف كثيرا للعرض، فلقد أزادني بحبه للشعر وبثقافته ووعيه السياسي عمقا للصورة التى تخيلتها، إضافة لالتزامه الشديد فى العمل. وأقل ما أصفه به أنه الصدق يمشى على قدمين: الصدق فى الإحساس والصدق فى الرأى والصدق فى المعاملة.. باختصار كان العمل معه ممتعا على المستوى الفنى وبلا مشاكل على الإطلاق على المستوى الإداري.

كيف كان السبيل إلى إقناع (نبيل الحلفاوي) ممثل دور درش؟

إقناع (نبيل الحلفاوي)

يكفى أن أسجل له موقفا تم يوم البروفة النهائية التي حضرتها بالصدفة الكاتبة الكبيرة (فتحية العسال) أو (ماما توحة كما كنا نناديها)، فلقد علقت أن مشهد وفاة صلاح جاهين بكل ما فيه من حالة تعبيرية وشجن جعلها تحس (حسب تعبيرها): مش عايزة أشوف حاجة تاني.. أو بلغة أهل الصنعة إن ما جاء بعده زائد عن الحاجة، اقتنعت بهذا الرأي، ولكن كيف السبيل إلى إقناع (نبيل الحلفاوي) ممثل دور درش؟

كانت الحسبة فى ذهنى كالتالي: أن نجم العرض وأشهر من فيه هو (نبيل الحلفاوي)، وحسب تصورات النجوم لابد وأن ينهى النجم العرض، وكثيرا ما كانت تثور المشكلات لو كانت الكلمات التى تنهي العرض يقولها ممثل آخر غير النجم.

بل أحيانا يتشبث بعض النجوم بأن ينهوا عروضهم بمنولوج طويل لا يقدم ولا يؤخر يستدرون به تصفيق الجمهور، حتى و إن كان ما يقولونه لا يستقيم مع (الشخصية) التى يؤدونها طوال العرض، أو عكس ما كانت تقوله (الشخصية).

فنرى اللص يحدثنا عن الشرف ونرى الديكتاتور يحاضرنا فى الديمقراطية.. (المهم يقفل وخلاص)، وليذهب اتساق الشخصية إلى الجحيم ولتحترق المسرحية أيضا.

فكيف أواجه (نبيل الحلفاوي) أنه لن يكون موجودا فى النهاية، و حسبت أنه من الممكن أن يرد عليّ قائلا إنه (راوى) العرض وكما بدأه لابد أن ينهيه.

و إذا بـ (نبيل الحلفاوي) يقترب منى قائلا: مدام فتحية بتقولي ان مافيش داعى لدخولي بعد مشهد الوفاة.

قلت: قالت لي.. بس..

قال: أنا كمان شايف ان ده أفضل، و نقفل بشكل عالي، دول مجرد بيتين شعر وممكن تحذفهم.. عموما شوف رأيك ايه؟

قلت له: موافق جدا؟

وهنا أكبرت (نبيل الحلفاوي) أكثر من ذى قبل وأدركت أننى أتعامل مع فنان يهتم بالعرض قبل أن يهتم بشكليات ترضى غروره، و هكذا يكون الفنان الحقيقى.

هذا جزء مما كنت سأرويه الأسبوع الماضي، وعندما علمت بأن الحلفاوى مريض وأنه في المستشفى كنت على ثقة من أنه سيشفى ويعود إلينا مبتسما وقد انتصر على المرض بحبه للحياة وبقوة إرادته، ولكن حدث مالم يكن في الحسبان.

وظللت أفكر كيف انتصر المرض على صديقى (نبيل الحلفاوى)؟.. لابد أنه هناك خطأ ما !!

ولهذا حديث آخر…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.