بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
مع تسارع وتيرة الأحداث فى قطاع غزة وتنامي حالة الجدل والصخب بشأن تورط الجيش الإسرائيلي فى المشهد السياسي الداخلى، تسببت تصريحات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي (دانيال هاغاري) بشأن قانون (فلدشاتين)، فى عاصفة من الجدل، بعد حديثه عن سماح هذا القانون للجنود بنقل معلومات سرية لرئيس الحكومة ووزير الدفاع دون الحاجة لإذن مسبق.
ومن ثم تأكيده على إن القانون يشكل خطرا على أمن إسرائيل ويتيح سرقة ملفات قد تعرض حياة الجنود للخطر.
تصريحات (هاغاري)، لم تمر بالطبع مرور الكرم داخل إسرائيل، بل جلبت له التوبيخ من رئيس الأركان (هرتسي هاليفي)، كما دفعت معها وزير الدفاع (يسرائيل كاتس) للقول “إنه سيتخذ إجراءات مشددة ضد (هاغاري)، مع تأكيده على أن انتقاد متحدث الجيش لمسار تشريعي في (الكنيست) ظاهرة خطيرة وانحراف كامل عن صلاحياته.
الأكثر من ذلك كان البيان الصادر عن الجيش الإسرائيلي، الذي أوضح إن (هاغاري) تخطى الصلاحيات، وإن الجيش لا ينتقد المشرعين، بل يعرض وجهة نظره عبر القنوات الرسمية، مع التأكيد على أن رئيس الأركان وبخ المتحدث (هاغاري) بسبب تصريحاته.
ومن ثم جاء تعليق وزير المالية (بتسلئيل سموتريتش) عبر حسابه بموقع (إكس) قائلا: (إن إسرائيل دولة لها جيش، وليس جيشا له دولة، وإن هناك قيادات بالجيش لا تفهم هذه المبادئ الديمقراطية).
مع إشادة من جانب (نتنياهو) بالإجراءات ضد (هاغاري)، وقوله: (إنه من الجيد أن يوضع المتحدث باسم الجيش في مكانه، مؤكداً على أن الجيش يجب ألّا ينتقد القوانين، وليس مخولا بالتدخل في قضايا سياسية أو انتقاد مسار تشريعي”، ليقر (هاغاري) بأنه تخطى صلاحياته في التصريحات.
مؤكدا أن رئيس الأركان قام بتوبيخه، كما تراجع (هاغاري) لاحقا عن تصريحاته وقال (إنه لا ينتقد المشرع، بل يعرض موقفه على القيادة السياسية في الآليات المقبولة لهذا الغرض).
التراجع والاعتذار
ما هى إلا ساعات من هذا الجدل والصخب، حتى جاء إعلان مكتب وزير الدفاع (يسرائيل كاتس)، أن الأزمة التي تسببت بها تصريحات (هاغاري) قد انتهت بعد أن قدم الأخير اعتذاره، وأن وزير الدفاع لن يسمح بتكرار تصرف كهذا يقدم عليه من يرتدي الملابس العسكرية.
ربما كانت تلك التصريحات العابرة التى أطلقها (هاغاري)، التى كادت أن تتسبب فى أزمة حقيقية داخلية في إسرائيل، كاشفة معها عما يتمتع به هذا الضابط من دور لافت في المشهد الإسرائيلي بشكل عام.
خاصة مع تصاعد وتيرة العدوان على غزة منذ أكتوبر من العام الماضى، وما يشهده القطاع من ممارسات إجرامية يومية من جانب الجيش، مع تحمل (هاغاري) عبئ بث الأكاذيب واختلاقها وتمريرها عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية.
تلك الأكاذيب التى تحدث عنها بشكل واضح وصريح الصحفى الإسرائيلي (حاييم ليفنسون) بعد اندلاع الحرب بنحو شهرين، وتحديداً في 21 ديسمبر 2023، فى مقاله الكاشف الذي حمل عنواناً فاضحاً لنشاط (هاغاري)، (الإسرائيليون بحاجة إلى أكاذيب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي لكي يصدقوا أننا منتصرون).
وقال دوماً ما أن ردد (هاغاري)، أن (حماس) تلقت ضربة قاسية، قاصمة. وهي الكلمة المُحبّبة لدى الإسرائيليين. وهذه كلمة أخرى مُحبّبة أعدنا (الردع)، سياسيون، جنرالات في الاحتياط وصحفيون ائتلفوا يداً واحدة لترويج الدعاية الكاذبة، التي تحطمت على وجوهنا في 7 أكتوبر 2023، لكن، ليس لنا من نلوم إلا أنفسنا.
ووصل حديثه (الإسرائيليون يحبّون أن يكذبوا عليهم. كل ماهية الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي هو أن يأخذ الغائط، أن يغلّفه بالعطور وأن يبيعه كأشهى الطعام، فليس هنالك مَن يريد أن يسمع أنّ لدينا جيشاً متوسطاً مع استخبارات فاشلة، بإمكان تنظيم (إرهابيّ) أن يركّعه).
السلعة الأكثر طلباً
حديث (ليفنسون)، لم يقف عند هذا الحد بل واصل وقال (الكذب في إسرائيل هو صناعة، هو السلعة الأكثر طلباً.. من يريد أن يقول الحقيقة، يُعتبَر جزءاً من صناعة الإحباط، يساريّاً، هآرتس، الجزيرة، كئيباً، كَمِداً، صناعة العظَمَة والاعتزاز القوميين تُفاخِر بأي عمل يقوم به الجيش الإسرائيلي).
وأضاف: تدمع وتنتحب من أي تقرير في ملحق نهاية الأسبوع في صحيفة (يسرائيل هيوم) حول التعاون بين ضابط المظليين وزميله من المدرعات، ماذا لم يقولوا وأي الهلوسات لم يرووها عن تفجير الأنفاق، وصفوا العملية بأنها لامعة ولا مثيل لها.
مع أنها بدأت أصلاً، بتغريدة للناطق الرسمي بلسان الجيش باللغة الإنجليزية عن أن الجيش الإسرائيلي دخل بقوات برية إلى غزة، كان من المفترض أن يدفع ذلك بالمسلحين إلى داخل الأنفاق لكي يستطيع سلاح الجو إنها المهمة والعمل.
ومن ثم تحدث (ليفنسون)، قائلاً: (ذات مرة، في صباي، جلستُ مع مراسل يكبُرني بعشرات السنين.. حكى لي عن اللحظة التي قرر فيها أن يصبح صحفياً، حين قضى حاجته في قناة أثناء حرب يوم الغفران 1973، بينما كان يمسك بصحيفة كتبت عن حجم الضربات التي ننزلها بهم، وقرر أن يصبح صحفياً كي يقول للجمهور الحقيقة).
ومن ثم واصل كشف حقيقة صناعة الكذب في تل أبيب قائلاً: تحتاج إسرائيل إلى الفطام عن أشياء عديدة منذ 7 أكتوبر، الرئيسي منها هو: الكذب على أنفسنا.. نحن نتبجح بحملات (الإعلام، والرسائل، الفيديوهات” دون أن ننتبه إلى أن جمهور الهدف لهذه كلها هو نحن وليس الجمهور في خارج البلاد.
وقال: التحقيقات الصحفية اللاحقة التي أجراها (عاموس هرئيل) في (هآرتس) و(طال ليف رام) في (معاريف) بيّنت أن الحديث عن أن أنفاق حماس ستتحول إلى مقابر جماعية، كان خدعة.
احتيال على الذات.. خداع لأنفسنا (إيلانة ديّان)، التي أجرت هى الأخرى تحقيقاً صحفياً في برنامج (عوفدا)، أجرت مقابلة مع قائد المنطقة العسكرية الجنوبية، اللواء (إليعيزر طوليدانو)، الذي قال: إنه ربما يكون عشرة مسلحين قد قُتلوا في الأنفاق.
ماذا يمكن القول: مصيدة موت مجنونة.. لكن، ماذا يهمّ؟، الرواية قد كُتبت.. الناطق الرسمي بلسان الجيش قد انتصر ونحن جميعاً خسرنا.
وواصل (15 سنة لدينا رئيس حكومة الكذب هو عقيدته، نشر الأكاذيب والهراء هو اختصاصه وتعمية أبصارنا هو مصدر رزقه.. مُلزمٌ، دائماً، بأن يصوّر نفسه والجيش بأنهما عظيمان، قويّان، مدهشان، يوّجهان للعدوّ ضربات ماحقة، فريدة من نوعها، قاضية، حاسمة.. وهو مدعومٌ من الجيش وصحفيي البلاط لديه).
وأضاف: (كما عدنا، رويداً رويداً، في الدعاية الذاتية عُدنا إلى التغني، الجرفة، التهديدات الفارغة.. نتوعّد بإبادة بيروت وبقصف لبنان، وبأننا على وشك تدمير حماس، قاب قوسين وأدنى. بأننا سنعيد على الفور الأسرى بفضل الضغط العسكري وبأنّ تواجدنا في الميدان سيصنع الفارق (نحن ننتصر).
صوت المقاومة الفلسطينية
أن نقول إننا ننتصر أفضل من القول إننا نجرجر القدمين وعالقون، وبالإمكان فهم الميل الإنساني إلى اختيار الاعتقاد بأن كل شيء على ما يرام وليس أن كل شيء سيء. تفضيل سماع الحديث عن عظمة سلاح الجو بطائراته الجبّارة.
الذكاء الاصطناعي ومخترق السايبر، عباقرة الوحدة 8200 إحدى أهم الوحدات في (شعبة الاستخبارات العسكرية)، وشجعان وحدات النخبة.
ومن ثم ختم حديثه: (من الممتع التفكير بعملاء جمع المعلومات الماكرين والمحنّكين من جهاز الأمن العام (الشاباك) الذين ينجحون في جعل الحجارة تتكلم ويجلسون في قلب سمّاعة هاتف (يحيى السنوار).
مُفرح أن تحلم بأنّ جهاز (الموساد) ينجح في اغتيال مدير البرنامج النووي الإيراني في قلب طهران.. من الممتع أكثر، بالتأكيد، أن تصحو على محللين فرِحين من أن تصحو على محللين يقولون إننا في طريق التصعيد، إن الجيش الإسرائيلي غير مستعد.
إننا لسنا أقوياء كما كنا نريد، إن قيادتنا بين متوسطة المستوى وفاشلة.. للمخدرات ثمن.. اليوم الذي تنفد فيه، هو فرصة للفطام.
بعيداً عما ذكره كاتب صحيفة (هآرتس)، فاللافت في تكرار أكاذيب (هاغاري) في كل مرة يتحدث فيها هو أن الإعلام لدى الجيش الإسرائيلي بأنه لا يتمتع بالذكاء، وأنه الأقرب إلى استغباء المتلقي حتى أن تصريحاته أصبحت الأكثر سخرية لدى المجتمع الاسرائيلي الذي لا يصدق كلام (هاغاري) بتاتاً.
كذلك فإنه على الرغم مما أصاب غزة وأهلها من مأساة غير مسبوقة، لكن الجميع أدرك جيداً منذ بداية الحرب وحتى الآن أن إعلام المقاومة الفلسطينية وخلافاً لإعلام الكذب الإسرائيلي تجاوزت قدراته الذكية أكثر بكثير من إعلام (هاغاري) الكاذب.
لأن إعلام المـقـاومة يقدم الدليل بالفيديو والصورة، واعلام (هاغاري) لا يقدم سوى اكاذيب غير مدعومة بأي دل، والفرق كبير وكبير جداً.
منذ بداية تلك الحرب الجائرة، لمس الجميع الصدق في خطاب (أبو عبيدة) الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة (حماس)، يأخذ الجميع جرعة من المعلومات والأمل الذي يبثه ذلك الرجل الذي اعتادوا عليه منذ سنوات، ويبدو بالنسبة لهم على قدر كبير من الصلابة والهمة وإدراك أهمية ما يقوم به سياسيا وعسكريا.
(أبو عبيدة) الأيقونة أو الرمز
بات (أبو عبيدة) رجلا أقرب إلى الأيقونة أو الرمز، يختزل صوت المعركة والقضية برمتها، يحب الجميع طلاقته وما يختم به مداخلاته (وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد)، فحديثه يبرّد القلب ويطفئ نار الغضب من جرائم إسرائيل في أهل غزة.
يذكر الجميع برموز النضال الفلسطيني (أبو عمار) بكوفيته و(أبو جهاد) و(أبو إياد)، لكن (أبو عبيدة) وعن حق هو صوت لمرحلة أخرى من النضال الفلسطيني المسلح.
بين أجيال مختلفة فى كافة أرجاء العالم العربي، صنع (أبو عبيدة) لنفسه شعبية لم يطلبها ولم يكن ساعيا وراءها، لكنها يندر أن تتكرر، ناقض مفهوم النجومية تماما بمقاييس الحضور الكامل والمميز، رجل ملثم بكوفية ولا أحد يعرف اسمه أو رسمه، يلقي بيانات ومعلومات عسكرية فيصبح ظاهرة عسكرية واتصالية وحديث العالم.
كان (أبو عبيدة)، رجل من نوع آخر، فلا اسم ولا صورة أو ملف له لدى جهاز (الموساد)، أو الاستخبارات العسكرية (أمان) أو جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) وتبقى شخصيته مجرد تخمينات إسرائيلية، ولم يتغير (أبو عبيدة) كثيرا منذ ظهوره الأول عام 2006.
ربما لون الكوفية والخلفيات والشريط الذي يحيط به رأسه، بقي إيقاع الصوت الواثق ودقة الإلقاء واختيار المفردات والتراكيب وترتيب المعلومات ولغة اليدين والإلمام بما يقول.
كذلك بات الإسرائيليون أنفسهم ينتظرون إطلالاته بمزيج من الخوف والتوجس، وهم يعرفون أنه جزء من حرب نفسية شديدة الوطأة عليهم، لكنهم للمفارقة باتوا يصدقونه أكثر من (نتنياهو) و(هاغاري) وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، منذ أحداث يوم السبت الأسود وما قبلها.
كما تجاوز (أبو عبيدة) في شعبيته حواجز كثيرة، فهو يحظى بمتابعة في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي أمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا، وينظر إليه هناك كصوت للمقاومة والقضية الفلسطينية.
لذلك هو لا ينسى أن يخاطب دائما أحرار العالم في إطلالاته، وهكذا بنى (أبو عبيدة) صورته وحضوره المؤثر، بلا اسم حقيقي معروف، وبوجهه المخفي بكوفيته الحمراء وزيه العسكري مع علم فلسطين على الذراع اليسرى، تراقبه إسرائيل جيدا وتترجم خطاباته، وتتمنى أن تُميط عن وجهه اللثام.
ويدرك (أبو عبيدة) أنه يواجه آلة دعاية إسرائيلية ضخمة، فهو يعطي كل مرة المعلومة اللازمة والأساسية والجديدة وذات المصداقية التي تضطر إسرائيل للاعتراف بها لاحقا وهو ينطلق من الخاص إلى العام، بمنهجية واضحة، ويتوجه إلى كل العالم، معتمدا على الصدقية بلا مبالغة.
وما بين صناعة الكذب ومضي (هاغارى) فيها قدماً هو ومن معه من خدام الصحافة الإسرائيلية، وبين خطاب المقاومة والنضال، تظل هناك حقيقة واحدة، أن الحق وأن غاب وطالت مدته لكنه حتماً سينتصر في النهاية على الكذب.. وللحديث بقية..