بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
قبل عقود مضت أبدع شاعر المقاومه الفلسطينيه الراحل (محمود درويش)، أحد أهم الشعراء الفلسطينين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن المسلوب بأنشودته الرائعة (عَلَى هَذِهِ الأرْض ما يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: هُتَافَاتُ شَعْبٍ لِمَنْ يَصْعَدُونَ إلى حَتْفِهِمْ بَاسِمينَ، وَخَوْفُ الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ).
نبؤة (درويش) التى حدثنا فيها عن خوف الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ.. جسدتها الطفلة الفلسطينية (خديجة) والتى لم يتجاوز عمرها السبع سنوات بصمودها وغنائها برفقة عشرات من الأطفال الفلسطينيين من داخل مركز للإيواء تابع لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا .
(خديجة) كانت تشدو وتقف بشموخ، وتغني (حلوة يا بلدي)، بصوت يملؤه الحنين والشجاعة وحب الحياة ولبلدها رغم آلة القتل الإسرائيلية.
صوتٍ فلسطيني بريء
على واقع أصوات المدافع والقصف الإسرائيلي المتواصل منذ 14 شهرا، والمأساة التي يعيشها قطاع غزة، جاء صوت (خديجة) وأدائها الرائع من داخل هذا المركز الذى يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، لتنقل رسالة للعالم أجمع وللمحتل الإسرائيلي مفادها كيف يمكن للفن أن يكون رسالة تحدٍّ.
وكيف يمكن لصوتٍ فلسطيني بريء أن ينقل للعالم قصة شعب يعاني من ويلات الحرب ولكنه لا يستسلم، رغم كل ما مرّ به الأطفال من قتل وتهجير وتجويع وفقدان لأدنى حقوق الطفولة.
وفى مقطع مصور نشرته (لويز واتريدج) الناشطة في وكالة الأونروا بغزة، ظهرت (خديجة) وهى تؤدي أغنية (حلوة يابلدي) للراحلة المصرية العالمية (داليدا)، وكأنها تنقل رسالة أخرى للجميع مفادها أن مصر هى عمق لغزة وامتداد طبيعي لها.. يستمد منها أهل غزة الصبر ويصبرون على آذى الإحتلال بأغنياتها الرائعة الممتدة عبر الزمان دون انقطاع.
حلوة يا غزة
على مدار دقيقة وعشرون ثانية متواصلة هى مدة المقطع المصور، وقفت (خديجة) وحولها رفيقاتها من زهرات بنات غزة، تشدو بكلمات (داليدا):
كلمة حلوة وكلمتين
كنا بنقول أن الفراق ده مستحيل
وكل دمعة على الخدين كانت بتسيل
مليانة بأمل إننا نبقي موجودين
فى بحر الحب على الشاطين حلوة يا بلدي
غنوة حلوة وغنوتين
حلوة يا بلدي املي
دايما كان يا بلدي اني ارجعلك يا بلدي
وأفضل دايما جنبك على طول
وذكريات كل اللى فات
فاكرة يا بلدي
قلبي مليان بحكايات فاكرة يا بلدي.
وجاءت الكلمات على لسان (خديجة) وكأنها كتبت من أجلها ومن أجل غزة، ومن يمعن النظر فى المقطع المصور للطفلة (خديجة) يلاحظ كيف بدت هى ورفيقتها في قمة القوة والصمود وكم الطاقة الإيجابية بداخلهن.
رغم حالة الضعف والوهن الجسدى والإرهاق وغياب الراحة وقلة النوم فضلاً عن ملابسهم القديمة وإرتداء بعضهن ملابس منزلية نظراً لإفتقادهن ملابس خروج جديدة، لكن إصرارهن كان أقوى من أي شيء آخر.
ربما كان هذا المقطع المصور أهم من ملايين المقاطع المصورة التى تنتشر صباح مساء عبر وسائل التواصل الإجتماعي بلا فائدة ولا جدوى سوى حصد المال من الإبتذال والإسفاف دون تقديم أى محتوى مفيد.
لكن لعله يستحق بالفعل أن يكون في الصدارة ولولا الناشطة (لويز واتريدج) في وكالة الأونروا بغزة، ما كان لخديجة ورفاقها أن يشهدهن العالم أجمع وما أنتشر هذا المقطع الذى حصد عشرات الآلاف من المشاهدات ومن المؤكد إنه وصل لإسرائيل وأثار غضبها وغضب حثالة قادة جيشها.
مع اليوم العالمي للطفل
لاقى المقطع انتشارا واسعا عبر المنصات الرقمية ومن قِبل وسائل إعلام مختلفة، حيث التقطه الآلاف من المتابعين، وأعاد كثيرون تداوله ونشره، تعبيرا عن إعجابهم ببراءة الطفلة (خديجة) وتمسكها بجمال الأغنية، حتى في أحلك الظروف.
والمثير للدهشة هو أن المقطع انتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي بالتزامن مع اليوم العالمي للطفل، الذي يُحتفى به في 20 نوفمبر من كل عام، بينما لا يزال الأطفال الفلسطينيون يتعرضون لاعتداءات تنتهك المواثيق الدولية.
وعلق البعض على المقطع بقوله: (خديجة البالغة من العمر 7 سنوات تغني بأعلى صوتها بينما يستمر القصف من حولنا، أصبح بعض الأطفال الذين يحتمون في هذه المدرسة التابعة للأونروا بلا أطراف بعد أن تعرضت لغارة جوية إسرائيلية أسفرت عن مقتل 22 شخصا بينهم 6 أطفال.. اليوم سيغنون وغدا).
وكتبت أخرى: أطفال غزة يغنون في ما يسمى (يوم الطفل العالمي).. غص قلبي كثيرا وأنا أشاهد هذا الفيديو وأتأمل عيون أطفال يستهدفهم العالم بأسلحته الفجة.. كم يحتاجون ليثبتوا للعالم طفولتهم؟
أما الناشطة الفلسطينية (نور سلمى) فعلّقت على المقطع قائلة: (يتصدر فيديو لطفلة تغني (كلمة حلوة وكلمتين، حلوة يا بلدي)، ينال إعجاب الجميع لكنه ينال حزني أيضا. تبكيني هذه الفيديوهات أكثر من الفرح.. هل يمكن أن يُخفوا طفولتهم عن هذا القتل؟ لقد رأيناه يحبهم جدا ويختارهم دائما.. هذه الفيديوهات تذكرنا بأنهم لم يريدوا إلا الغناء والركض والهروب من المدرسة، فلماذا هربوا من الحياة؟).
كما أشارت إحدى المدونات عبر حسابها على منصة (إكس) إلى (أن أطفال غزة نافذة أمل، وما أحلى أطفال غزة، يبهروننا دائما ببراءتهم رغم الحرب).
وأشار مغردون آخرون إلى أنه رغم مرور 14 شهرا من الموت والجوع والحصار والخذلان، لا يزال أطفال غزة يحلمون بالفرح، ويتحدّون رائحة الموت بالفرح والغناء للوطن، في أحد مراكز الإيواء رغم صعوبات الحياة.
فيما اعتبر آخرون أن (أطفال غزة في الحرب أبطال، وفي الحصار إرادة لا تنكسر.. وفي الفن والذوق رأينا هذه الطفلة الصامدة (خديجة)، هذا جيل عاصر الحرب وأهوالها، وسيكون لهم شأن عظيم مستقبلا، لم تمنع الإبادة بحقنا إثبات حقنا في حياة كريمة مثل شعوب الأرض الحرة).
فقدان جيل من الأطفال
بالطبع لم يحرك المقطع المصور ساكناً إلا لهؤلاء من أصحاب الضمائر الحية، أما الباقية فلا أمل فيهم ولا رجاء فهم فى غياب ما يشغلهم أمور أخرى غزة بعيدة عنها تماماً.
ولو كان أحد مهتم لكان شعر بشيء من القلق والخوف بعدما أعلنت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) على لسان مديرة الإعلام والتواصل في الأونروا (جولييت توما) أن قطاع غزة على وشك فقدان جيل كامل من الأطفال بسبب الحرب الإسرائيلية المدمرة التي دخلت عامها الثانى دون انقطاع.
حيث أوضحت أن 600 ألف طفل في غزة لم يتمكنوا من الذهاب إلى المدارس منذ بدء الحرب الإسرائيلية، مع تأكيدها على إغلاق عدد كبير من المدارس، وتحوّل مدارس الأونروا إلى ملاجئ للنازحين.
بل وحديثها عن أن استمرار هذه الحرب قد يؤدي إلى فقدان جيل كامل من الأطفال، وأن غياب الأطفال عن المدارس سيجعل من الصعب تعويض خسائرهم التعليمية، داعية إلى وقف إطلاق النار من أجل هؤلاء الأطفال.
كما سبق وأن أفاد المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) جيمس إلدر، بأن الأطفال هم أكثر الفئات تضررا جراء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأن منظمته تصف ما يجري في القطاع بأنه (حرب على الأطفال).
وأن غزة لم تعد مكانا مناسبا للعيش بالنسبة للأطفال بسبب الحرب، إذ يتعرضون للاستهداف ويعانون من ضغوط نفسية كبيرة، داعيا إلى وقف الحرب لتجنيب الأطفال مزيدا من المعاناة.
أخيراً.. ربما كان غناء (خديجة) وحده الأمل الباقى وسط هذا الكم من الظلام والإرهاب والعدوان الإسرائيلي المتواصل بدعم وتواطؤ أمريكى وغربي غير مسبوق.. وألف تحية وسلام لها ولروحها البرئية هى ورفيقاتها من أطفال غزة.. وللحديث بقية..