بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
لم يكن في مصر القديمة والحديثة، مكان تقدم فيه العروض المسرحية الاحترافية، فقد أسست مصر القديمة فن عرض (المسرح)، ولكن العروض المسرحية كانت تتنقل من مكان إلى آخر، ويقدمون عروضهم في أماكن متعددة.
ومنذ العثور على أثر للمثل مصري قديم يدعى (إمحب)، يوضح أنه كان يمثل عروضه في ربوع مصر القديمة بين الشمال والجنوب، ويبدو أن فناني عروض (المسرح) في العصور الحديثة، سارت على هذا النهج.
وهذا ما نجده في فرق المحبظين التمثيلية، التي كانت تتجول بعروضها وتقدمها في أي مكان، ومما وصل إلينا من وصف لعروض هذه الفرق، سنجد أن فرق المحبظين، كانت فرقة ثائرة معبرة عن المصريين المحدثين، في عروض (المسرح).
فلم تكن معظم عروضهم تقدم للتسلية، ولكن في عروضهم نقد تمثيلي سياسي يعبر عن حال الشعب المصري، ويحاولون إيصال ما يريده الشعب للحكومة المصرية، في شكل عرض تمثيلي ساخر.
ومن بعض عروضهم السياسية النقدية اللاذعة، نركز على عرض (الفلاح عوض)، الذى قدم في حفل ختان ابن الباشا (محمد علي)، وفي هذا العرض تم تحليل نقدي جرئ للحكومة المصرية في هذا العصر، من خلال الشخصيات الممثلة، ونسوق الأمثال عن تلك الشخصيات ونقدها من خلال العرض المسرحي:
احتوي العرض على مجموعة من الشخصيات الرئيسية وهى:
ناظر الإقليم .. شيخ البلد .. الكاتب القبطي .. عوض بن رجب .. زوجة عوض بن رجب
خمس شخصيات تمثل فرقة موسيقية وراقصين.
وقبل أن نستعرض التحليل النقدي السياسي اللاذع للحكومة المصرية ننوه بأن الشخصية المحورية في هذا النص هى شخصية زوجة (الفلاح عوض)، وهيى التي سوف تفعل أي شيء في سبيل خروج زوجها من السجن، ونبدأ بشخصية (الفلاح عوض).
(عوض) فلاح فقير مدين بضرائب للحكومة مقدارها ألف قرش، وهو شخصية تعاني من التهميش والإذلال، ولا يملك شيء، ونتعرف على هذه الشخصية من خلال المشاهد التالية:
المشهد الأول: (الحكم على عوض)
ناظر الإقليم: ” كم قرشا دين عوض بن رجب؟
الكورس (الفلاحين ): (مر النصراني بالبحث في السجل).
شيخ البلد: كم على عوض بن رجب؟
الكاتب النصراني: ألف قرش.
شيخ البلد: كم دفع منهم؟
الكاتب النصراني: خمسة قروش.
شيخ البلد: يا راجل، لماذا لم تحضر النقود؟
عوض: ليس عندي نقود.
شيخ البلد: ليس عندك نقود؟ اطرحوه.
(يأتون بسوط (كرباج) ويقمون بضربه به ، ويستغيث عوض بالناظر ويتوسل إليه).
عوض: وشرف ذيل حصانك يا بك!.. وشرف سروال زوجك يا بك!.. وشرف عصابة رأس امرأتك يا بك.
شيخ البلد: يأمر بأخذه للسجن.
في هذا المشهد، يصور فنان المحبظين، شكل الحكومة المصرية متتبعا تسلسلها، ناظر الإقليم (المسئول الكبير)، يتبعه شيخ البلد، يتبعه الكاتب، ونلاحظ من المشهد أنهم يطبقون القانون، ولكنهم عكس ذلك، ويظهر عوض بشخصيته الفقيرة الذليلة أمام السلطة الغاشمة، التي لا تراعي ظروف الفقر الذي يعيش فيه .
المشهد الثاني: (السجن)
تحضر زوجة عوض لتطمئن عليه.
الزوجة: عوض.. عوض.. عامل ايه؟
عوض: إلحقيني .. خلصيني من هنا.
الزوجة: لازم ندفع الفلوس.
عوض: ما فيش.. ما أنت عارفة.
الزوجة: والعمل؟
عوض: أقولك: خدي شوية كشك.. وشوية شعرية.. وكام بيضة.. وروحي على بيت الكاتب.. إديهمله.. واترجيه يخرجني من هنا.
الزوجة: حاضر يا خويا.. حاخد الحاجة وأروح له.. أطمن.
المشهد الثالث: (الرشوة)
الزوجة (للكاتب): يا معلم حنا، تفضل بقبول هذه الهدية وانقذ زوجي، الفلاح المدين بألف قرش.
المعلم حنا: طيب.. بس اسمعي.. شيخ البلد هو اللي يقدر يخرجه.. أحضري عشرين قرشا أو ثلاثين رشوة لشيخ البلد.
الزوجة: ها.. حاضر.
المشهد الرابع:
الزوجة: علشان خاطري.. خرجه من السجن.. ودول إلي معانا.
شيخ البلد: سوف أخدهم، ولكن الأمر بيد ناظر الإقليم .. اذهبي إلى الناظر.
الزوجة: الناظر .. كده بدون شيء.
شيخ البلد: بدون شيء.. ولكن تجملي وتزيني.
المشهد الخامس:
الزوجة تتكحل وتتزين لمقابلة ناظر الإقليم.
الزوجة: تحيي الناظر وتقول: أنا زوجة عوض المدين بألف قرش.
ناظر الإقليم: ماذا تريدين؟
الزوجة: إن زوجي مسجون وأستنجد بمروءتك لتخلصه.. وتبتسم، وهى تلح في طلبها، وتظهر أنها راغبة في مكافأته على هذا المعروف، فيقبل ذلك.
وبعد هذه الرشوة لناظر الإقليم نراه في المشهد السادس:
يقوم بالدفاع عن الزوج، ويخرجه من السجن.
ومن العرض المسرحي لفرقة المحبظين، نلاحظ أن فنان (المسرح) المصري المعاصرقد قدم عرضا تمثيليا نقديا فقد قام بتحليل الشخصيات المسئولة في الحكومة ، وأظهر نفوسهم الدنية واستغلالهم للفلاح عوض، وأظهرهم في حالة الفساد التي تعتريهم ، وقبولهم الرشاوي، من الزوجة حتى يخرج زوجها من السجن.
والغريب في هذا العرض، أن الفنان قدم الرشاوي للمسئولين بتدرج غريب، فكل مسئول له رشوة معينة لا يخرج عن حدودها، ولا يطلب أكثر من هذا، وكل مسئول يعرف رشوة المسئول الأعلى منه.
فالكاتب رشوته (بيض.. كشك.. شعرية)، وشيخ البلد (نقود)، أما ناظر الإقليم فرشوته (كما ظهر في المشهد)، الغريب في الأمر أن هذا العرض قدم أمام الباشا (والي مصر)، وهو بمثابة رسالة من الفلاحين المقهورين غير القادرين على دفع الضرائب، وما تفعله معهم الحكومة في هذا الوقت.
ويقوم بنقل هذه الرسالة المحبظين (فنانين الشعب)، ويقومون بنقلها في صورة تمثيلية تظهر نفوس الحكومة تجاه الفلاح الفقي، وهكذا نرى مدى التلاحم بين الفنانين والشعب، والتعبير عنه، وهذا العرض من العروض النقدية المحللة للشخصيات الحاكمة في هذا الوقت، ليعبر عن حال الشعب المصري الفقير.