رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (سعيد أبو بكر).. سيد الكوميديا السوداء وأول متحرش فى السينما المصرية

تجسدت موهبة سعيد أبو بكر في تجسيد شخصيات تتراوح بين البساطة والمكر، وبين الكوميديا والعمق

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

يُعَدّ الفنان (سعيد أبو بكر) أحد أبرز وجوه السينما المصرية، بروحه الكوميدية العفوية التي لم تخلُ من السخرية والنقد اللاذع.

 وُلد (سعيد أبو بكر) عام 1913 في الغربية، وانطلق من عائلة متواضعة، ليصبح بعد ذلك نجمًا في الفن الساخر.

كان (سعيد أبو بكر) يمثّل صوت البسطاء، وفي ملامحه وتعبيراته تجد هموم المجتمع وآلامه، ممزوجة بابتسامة قد تُخفّفها وتُضفي روح الدعابة، ولكنه لم يخلُ من عمق في الأدوار التي قدمها.

منذ بداياته مع الفرق المسرحية ومرورًا بانضمامه إلى فرقة (فاطمة رشدي)، تجسدت موهبة سعيد أبو بكر في تجسيد شخصيات تتراوح بين البساطة والمكر، وبين الكوميديا والعمق، حتى أصبح أيقونة لكل ما هو واقعي وساخر.

وفي عالم السينما، لم تكن أدواره مجرد مواقف مضحكة، بل كانت لوحات تصف معاناة الإنسان، خاصة من الطبقات الكادحة.

حين قدم (سعيد أبو بكر) دور (شيبوب) في فيلم (عنتر ابن شداد)، كان يتجسد في شخصية مليئة بالحكمة الكوميدية التي تتناسب تمامًا مع صديقه عنتر الشجاع، ليضيف نكهة خفيفة إلى القصة البطولية العميقة.

 قدّم (شيبوب) بذكاء، فكان سندًا لعنتَر وحكيمًا في وقته، ومصدرًا للضحك في آن واحد، ليترك أثرًا لا ينسى في قلوب المشاهدين، ويبرز عبقرية أبو بكر في تجسيد الشخصيات المختلفة بواقعية وحنكة.

أول من قدم المشاهد التي تناولت موضوع التحرش في السينما المصرية

أول مشهد تحرش في السينما

في مشهد يُعتبر من أوائل المشاهد التي تناولت موضوع التحرش في السينما المصرية، أبدع المخرج صلاح أبو سيف في تصويره بذكاء بصري وواقعية، مستعينًا بأداء مميز من الفنان سعيد أبو بكر والفنانة هند رستم.

هذه اللحظات، التي جرت عام 1959 في فيلم (بين السماء والأرض)، جسّدت ببراعة موقفًا حساسًا، يتنقل فيه بين الفكاهة والنقد الاجتماعي.

تبدأ الكاميرا بلقطة خلفية لهند رستم، التي تُظهر جمالها الآسر، منحنية لتخرج كلبها من السيارة، فتجذب الأنظار من الجميع، بل حتى الحصان الذي يجر عربة فى الشارع يتوقف وكأنه مأخوذ بجمالها.

 تمشي هند في الشارع وتلفت انتباه (سعيد أبو بكر) الذي، رغم وازع الضمير الذي يحاول إيقافه، يقرر أن يتبعها.. نجد ترددًا في وجه (سعيد)، يحدق في ساعته وكأنما يُذكره شيء ما بالمسؤولية وضرورة التوقف، لكن شهوته تسيطر عليه، فيستدير ويهرول خلفها.

عند وصولهما أمام باب العمارة، تنحني (هند) لتعديل حزام كلبها، وهنا يقترب (سعيد أبو بكر) منها بخطوات واثقة، ينقل فيها طابع المتحرش المتردد، الذي قد تتلاعب به غرائزه.

 تشعر هند بهذا الاقتراب، فتنظر خلفها بامتعاض وتقول بصوت مليء بالضجر: (أوف!)، ليأتي رد فعل سعيد بانفعاله الحار، ممسحًا وجهه بمنديل في تلميح للسخونة، وكأن الجو الحار ليس السبب الوحيد لسخونته.

هذا المشهد الدقيق قدّم (سعيد أبو بكر) فيه الأداء ببراعة تنقل روح الشخص المتردد بين رغباته وضوابط مجتمعه، مازجًا في دوره بين الحس الكوميدي والنقد الاجتماعي لتلك الظاهرة.

قدم (سعيد أبو بكر) شخصيات تعكس تنوع الطبقات الاجتماعية المختلفة

شخصيات تعكس تنوع الطبقات

في مشهد مصمم بدقة وإتقان من المخرج الكبير صلاح أبو سيف، يتواصل التحرش الذي يقوم به (سعيد أبو بكر) داخل المصعد، حيث يجمعنا الموقف بمجموعة من الشخصيات التي تعكس تنوع الطبقات والتفاعلات داخل المجتمع المصري.

 تستمر (هند رستم)، بملامحها المرهقة والمحتجة، في الصراخ: (يا جماعة حرام عليكم، هنموت كده!)، مشيرةً إلى ضيق المكان والضغط النفسي والجسدى الذي يمارسه (سعيد أبو بكر) عليها.

فيرد أحد الركاب: (إيه الزحمة دي؟)، بينما يأتي صوت (سعيد أبو بكر)، مبحوحًا ومشغولًا بانشغالاته، قائلاً ببرود: (ما فيش زحمة ولا حاجة، فين الزحمة دي؟)، وكأنه يتهرب من مسؤوليته ويرمي المشكلة على الآخرين.

مرة أخرى، تشعر هند بوجوده خلفها، فتلتفت لتنظر إليه بنظرة امتعاض وتقول: (أوف!)، محاولة الهرب من قربه غير المرغوب فيه.

 هنا، يتدخل الفنان (عبد السلام النابلسي) الذي يظهر بشخصية نبيلة، فيضع هند أمامه ليحميها من (سعيد أبو بكر)، ما يدفعها لأن تشكره بعد ذلك بنظرة امتنان، وهى تهمس بامتنان: (شكرًا)، وكأنما تنفست الصعداء بوجود شخص يقف في صفها.

لكن (سعيد أبو بكر) ، الذي باتت رغباته ظاهرة ولا يستطيع التحكم بها، يحاول التحرش بسيدة أخرى في المصعد، وهنا يأتي رفيق السيدة ليمنعه بحزم، مانعًا إياه من التمادي.

هذا المشهد، رغم كونه يحمل روح الفكاهة، يعكس قضايا اجتماعية حساسة بشكل غير مباشر، مظهراً جوانب النفس البشرية حين تُسيطر عليها الغرائز، وكيف أن المجتمع فيه من يقف ليمنع الظلم ويحمي الضعفاء.

أظهر قدرةً استثنائية على أداء أدوار تجمع بين الذكاء والمكر والتلقائية

مسيرة حافلة ونهاية مأساوية

شارك (سعيد أبو بكر) في نحو 65 فيلمًا، وكان من بين أدواره المميزة دوره في (أمريكانى من طنطا، والاستاذة فاطمة)، حيث أظهر قدرةً استثنائية على أداء أدوار تجمع بين الذكاء والمكر والتلقائية، ليصبح نجمًا محببًا إلى قلوب الناس، وإن لم يحظَ بالشهرة الواسعة مثل غيره، فقد كان دائمًا محترمًا، محبوبًا، ومؤثرًا.

عاش (سعيد أبو بكر) حياته عازبا، لم يتزوج قط، وكان يعيش وحده، مستمتعًا بتربية الكلاب من أنوع  الكانيش (جلجل وشارلى) وهى نفس الهواية التى جمعته بالفنانة (هند رستم)  .

لكن سنواته الأخيرة حملت مرض القلب، مما اضطره إلى السفر إلى لندن لإجراء جراحة دقيقة، إلا أن القدر كان له رأي آخر؛ فقد منعت الطائرة من الهبوط بسبب الضباب، وهبطت في مطار بعيد عن لندن، ولكن (سعيد أبو بكر) قد فارق الحياة قبل الهبوط، لتنتهي مسيرة ذلك الفنان الفذ فى 16 أكتوبر عام 1971.

كان فنانًا يتنفس روح الطبقات الكادحة

أيقونة الكوميديا الهادفة

كان (سعيد أبو بكر) شخصًا بسيطًا، يجسد عبقرية التمثيل العفوي، ليصبح رمزًا للكوميديا الحقيقية، تلك التي تعكس ألمًا ومرارة خلف الضحك.

لقد كان فنانًا يتنفس روح الطبقات الكادحة، ويسخر من واقعه في ذات الوقت، لتظل أدواره خالدة في الذاكرة، وتبقى شخصياته هى النبض الذي يعكس ملامح الحياة المصرية بكل ما فيها من بساطة وتعقيد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.