بقلم الكاتبة الصحفية اللبنانية: مارلين سلوم
تتردد ألف مرة وأنت تحاول الكتابة عن سيدة استثنائية بحجم (فيروز)، ترتجف الكلمات خوفاً من أن تأتي أصغر من قيمة وهيبة وعظمة صوتها وموهبتها ومسيرتها المكللة بالذهب الخالص، فهي أكثر من مغنية وأكبر من نجمة، هي حالة لا تشبه إلا ذاتها.
تكتب في عيد مولدها التسعين، فهل من السهل أن تجد الكلمات التي تترجم بدقة ما تعنيه لك (فيروز)؟، هل يمكنك اختصار مشاعرك وهى التي تراها بحجم وطن؟ رافقتك منذ أن تفتحت عيناك على الحياة، غنت لك لتنام فصارت ووجه وصوت أمك توأماً، كبرت فرافقتك في كل مراحل الحياة، مرة ترفعك فتجعلك والقمر جيران، ومرة تأخذك إلى طريق النحل وتعرّج على حنّا السكران وناطورة المفاتيح وتنتفض فتعلّمك كيف تكون مخلصاً لأرضك وفيّاً لوطنك..
في اتساع البحر تراها ومع تساقط الثلج ونقائه تراها.. لم تزل بها القدم مرة، لم تنحدر نحو المهاترات ولا الصغائر مرة، لم تهجر لبنان ولم تدر له ظهرها بحثاً عن الأمان خارجه طوال سنوات الحرب وبعدها..
تسعون عاماً يا صاحبة الصوت الملائكي، يأتي العيد والقدس مازالت تنتظر وتئن، كم مرة غنينا ورددنا معك (الغضب الساطع آتٍ) ولم يأتِ، (سنرجع يوماً) ولم يرجعوا ولم ترجع فلسطين!
السنون مرت وها نحن نشهد تكرار المأساة في فلسطين ولبنان، وها نحن نضمد الجراح وننشد الصمود بأغنيتك (لبيروت) مرسلين لها السلام والقُبَل وهي تنزف وتنزف.
يا فيروزتنا، يا أيتها المعادلة الصعبة، السلسة العصيّة، الخجولة القوية، الرقيقة التي ترسم لنا الحب والأحلام بريشة تطير في الهواء، ثم تهدر بصوتها فيرتعد المسرح وترتعش القلوب عنفواناً وعزة وكرامة..
ماكرون شعر بالرهبة!
يا من زارها الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) في بيتها من أجل تكريمها قبل أربعة أعوام (ليشرب معها فنجان قهوة)، فإذا به يصرح بعد اللقاء أنه شعر بالرهبة! نعم الرئيس شعر بالرهبة أمام (فيروز) الخجولة، هى سيدة المكان بل كل الأماكن، فكانت هي من كرّم الرئيس باستقباله في دارتها، لم تنتظر يوماً جائزة أو نيشان، لم تسع خلف الشهرة ولا خلف الإعلام والحوارات..
غنت فقالت: لا حاجة للمزيد كي تعبّر عن نفسها.. بيتها صومعتها، راقية حتى في صمتها الذي اختارته ليكون عازلاً بينها وبين فضول الصحافة، تتحدث نادراً وتختار بعناية مع من ومتى.
حين نقول أن (فيروز) لا تشبه أحداً ولن يشهد العالم فيروزاً ثانية، فنحن نتحدث عن الفنانة والإنسانة معاً؛ منذ انطلاقتها الأولى عبر أثير الإذاعة اكتفت بالغناء وبقيت بعيدة عن الأنظار لا أحد يعرف وجهها.
ورغم سرعة شهرتها وشدة إعجاب الناس بصوتها الملائكي لم تصب بالغرور ولا بحثت عن الأضواء والشاشة والحفلات ولا سعت خلف أحد بل بقيت أيقونة، خجولة، راقية، ويشهد على ذلك كل إعلامي حالفه الحظ بمقابلتها، حديثها مقتضب، خفة ظلها وروح النكتة حاضرة..
ابتسامتها لا تغيب، سعى للقائها أشهر نجوم الإعلام في العالم، والرؤساء والوزراء ولم تسع يوماً لتطرق باب أحد.
هي دخلت كل بيت عربي وبيوت كثير ممن عشقوها وهم لا يتحدثون العربية.. ماذا تعني لنا (فيروز)؟، هى رفيقة طفولتنا وصبانا وملاذنا في أوقات الضيق؛ هى الوطن الذي نراه ونشعر به ونحن إليه من خلال صوتها وأغنياتها، ترحل بنا بعيداً، ألم يطلق عليها الشاعر اللبناني سعيد عقل (سفيرتنا إلى النجوم)؟
بل هى سفيرتنا إلى كل مكان، نغادر أوطاننا وأهالينا و(فيروز) لا تغادرنا.. نحملها معنا في كل مكان، في ذكريات طفولتنا موجودة، في أحلام الصبا والشباب موجودة..
تجلس معنا على الشرفة كل صباح لنرتشف القهوة معاً، والأجمل أنك تنقل هذا الحب وهذا الانتماء الفيروزي لأطفالك وتزرعه فيهم منذ يومهم الأول وأنت تردد أغنياتها على مسامعهم وتهمس لهم بحكايات تغزلها (فيروز) من حرير.
سفيرة الإنسان أينما كان
(إيماني ساطع يا بحر الليل)، حتى في لحظات الاشتياق للراحة النفسية تجد (فيروز) تغني بل ترنم بكل حنان وإيمان وخشوع.. تلك التي ارتقت فوق كل النزاعات والصغائر فكانت طوال الحروب والأزمات فوق أي انحياز لطائفة على حساب باقي الطوائف.
ولم تجنح نحو حزب نكاية بباقي الأحزاب، هى لبنان، وهى سفيرة الإنسان أينما كان؛ قد تجد من يختلفون حول فنانة أو فنان منهم من يحبه والآخر يبدي عليه ملاحظات، لكن فيروز لمست كل الناس..
وقفتها فوق خشبة المسرح، شموخها، احترامها لذاتها وللفن، عاشت حياتها كلها دون أن ترتكب هفوة ولا فضيحة تجلجل بها الصحافة والألسن في كل مكان، وفوق كل هذا، وأهم من كل هذا..
صوتها الذي يخدع عشاق الغناء فيحسبونه سهلاً بسيطاً، وحين يقتربون محاولين غناء الفيروزيات يكتشفون أنها ما زالت بعيدة المنال، وفي صوتها طبقات وقدرات على التلوين نادرة جداً.. يجيدون التقليد ويجيدون الغناء لكنهم لن يكونوا أبداً (فيروز).
marlynsalloum@gmail.com