بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم
كعادتى الليلية أتجول داخل المعتقل.. في علاقتى مع الآخرين.. لي أفكاري الخاصة..أنا مع الإنسان دائما مهما كانت طبيعته.. جنسيته أو جنسه.. ديانته أو انتماءاته الفكرية أو السياسية.. من بين من عاشرتهم في المعتقل (أبو حصيرة) الفلسطيني وعصفور الفلسطيني أيضا.. كنت أسألهما عن تهمتهما فيضحكان ويخبراني أنهما لا ينتميان لأي فصيل.. وأن جريمتهما أنهما يعشقان مصر.. وأنهما يدفعان الآن ثمن حبهما لها..
يضربنى مزيد من الحزن فأنا أيضا أدفع ثمن حبي لمصر.. لكننى ابنها ولى أن أتحمل ما يجره على حبها .. فما علاقتهما في فلسطين بحب مصر إلى درجة التضحية بالحرية و بالحياة تقريبا من اجل مصر؟!
يحكي (أبو حصيرة) و يكمل له (عصفور) وكأنهما جوقة سويا: عندما اشتدت همجية المحتل الصهيوني و أعمل في بلدتنا مذابحه وقتل معظم أفراد أسرتنا.. لم نجد أمامنا من مفر سوى الهروب إلي الحبيبة مصر..
عانينا حتى استطعنا التسلل الي أراضيها الآمنة.. فرحنا جدا بوصولنا إليها خصوصا أن لنا أقرباء فيها.. لكن بمجرد اجتيازنا الحدود تم القبض علينا.. وضعونا في المعتقل بالسجن الحربي.. قاموا بتعذيبنا بأقسي أنواع التعذيب حتي نعترف.. على ماذا؟..
سألناهم: أجابوا أنهم يريدون منا أن نعترف أن إسرائيل أرسلتنا للتجسس علي مصر و أهل مصر.. لشدة ما وقع علينا من عذاب وتنكيل في (المعتقل) كدنا أن نعترف بهذه التهمة الظالمة..
كنا بالفعل قد وصلنا لمرحلة متقدمة من الانهيار الجسدي والنفسي.. لولا أن أحد الحراس المتعاطفين معنا في (المعتقل) نصحنا بعدم الاعتراف طالما أن التهمة ظالمه لأننا سنعدم بمجرد اعترافنا بالتجسس لا محالة..
طالت فترة التعذيب دون أن ينالوا منا اعترافا فلا شيء بعد حدود الموت.. أصبحت حالتنا يرثى لها.. ولم يجدوا طائلا من استمرارهم في تعذيبنا فأرسلونا إلى (المعتقل) في (طرة) السياسي بدون تهمه.. لذلك وضعونا في عنبر (النشاط المعادى)..
كان الحكم والتقاضي
ويتم تقديمنا للمحكمة كل 6 شهور للنظر في أمرنا والإفراج عنا.. لكننا في كل مرة نعود إلي (المعتقل) بعد أن يرفض القاضي طلبنا.. حيث كان الحكم والتقاضي.. كان يشمل جماعات ليس فردا بفرد.. بمعني أنه ينادي في المرة الواحدة علي 250 إسما ثم يعلن القاضي رفض الحكومة بالإفراج عن هذه الجماعة لخطورتهم علي الأمن العام..
بصعوبة استطعنا إبلاغ عائلاتنا بالقاهرة أننا في (المعتقل) بطرة السياسي فحضروا لزيارتنا.. عائلة (أبو حصيرة) تملك أكبر محل الملابس الجاهزه في ميدان السيدة زينب..
كان صديقي (أبو حصيرة) صديقا لكل أفراد المعتقل عدا عنبر الشىيوعيين.. فالشيوعيون كعهدهم دائما في هذه الفترة كان معظمهم مصابا بالوسوسة القهرية.. يشكون في كل ما هو ليس بشيوعي..
قوس قزح يرونه ألوانه السبعة أحمر فقط.. حتى أنهم كانوا يشكون في بعضهم.. ويرمون بعضهم البعض بالعمالة أو التحول إذا ما أفلت لسان أحد منهم بما يخالف لغتهم و أفكارهم..
كان في عنبر الشيوعين طبيب معروف يحضر إلى عنابرنا ويصلي معنا ويستمتع بخطبة الشيخ الغزالي بعد العشاء.. ولأنهم لا يريدون لفت النظار إلى مشاكلهم لم يقاطعوه بشكل رسمي لكنهم حرموه من اى من المناصب الرئاسية في عنبرهم..
(أبو حصيرة) صديق لكل معتقل طرة.. تراه يجلس مع الإخواني والمكفراتي والشعراء والأدباء يستمعون له وهو يحكي في ألم عن كل ما حدث له حتي وصل إلي هنا.. أما (عصفور) فهو شاب مهذب جدا.. كان يهتم بي اهتماما خاصا..
عندما لاحظ أنني لا أنام ليلا علي البرش الخاص بي بسبب زحف الحشرات سارع بإحضار السولار وأغرق به المكان الذي أنام فيه لأكتشف أن الحشرات أرحم من رائحة (الجاز)الذي نستعمله للتواتو..
وحينما لاحظ (عصفور) جولاتى الليلية في (المعتقل) في عز البرد أصر أن يعطيني البالطو الخاص به لأرتديه في تجوالى الصالة الطويلة جدا التي توصلنا إلي مئات الحمامات..
برد الشتاء الليلى من الخارج وبرد الشعور بالظلم من الدخل كان يدفعنى دائما لأن أسير في هذا الممر الطويل بعد أن أرفع ياقة البالطو وأضع يدي في جيوبه.. الغريبة أنه عندما أفرجوا عني رفض (عصفور) استرداد البالطو وأصر أن أحتفظ به ذكرى لصداقتنا فأهديته لوالدي الحبيب..
الشيخ (حسن الهضيبي)
كان (أبو حصيرة) صديقا للمرشد العام الشيخ (حسن الهضيبي) و لابنه (ممدوح) الذي يزوره مع أسرته كل شهر.. وهو الذي عرفني عليه بعد أن أخذني له في مستشفي السجن..
تم اعتقال (حسن الهضيبي) للمرة الأولى مع بعض الإخوان في 1954 ثم أفرج عنه في (مارس/ آذار) من نفس السنة وقد اعتذر له ضباط الثورة.. ثم اعتقل للمرة الثانية أواخر عام 1954 حيث حوكم وصدر عليه الحكم بالإعدام ثم خفف إلى المؤبد..
نقل بعد عام من السجن إلى الإقامة الجبرية لإصابته بالذبحة ولكبر سنه.. وقد رفعت عنه الإقامة الجبرية عام 1961.. ثم أعيد اعتقاله في سنة 1965 في الإسكندرية وحوكم بتهمة إحياء التنظيم رغم أنه كان قد جاوز السبعين..
أخرج خلالها لمدة خمسة عشر يوما إلى المستشفى ثم إلى داره ثم أعيد لإتمام سجنه.. ومددت مدة سجنه حتى عام 1971 حيث تم الإفراج عنه.. عرفني (أبو حصيرة) أيضا بالحاج (صالح أبو رقية) الذي أعده من أطيب الشخصيات التي قابلتها في حياتي..
عرفني كذلك بالمهندس (مراد الزيات) الذي أحببته وأحببني جدا.. تولي (أبو حصيرة) و(عصفور) خدمتي و القيام بكل ما سأكلف به يوم النبطشيه من كنس و مسح العنبر وإحضار الطعام..
ساعداني في وضع بعض البطاطين في الزاوية الموجودة في نهاية العنبر حتي أخلو لنفسي.. يحضرون لي الزبادي المخلوط بالعسل الأسود الموجود بكثرة في كل عنبر حيث كانوا يحضرونه لنا من سجن مزرعة طرة..
أما الزبادي فكان خاصا بأبو حصيره الذي يتسلم طعاما طبيا خاصا به بيض ولحمة حقيقيه بخلاف الحليب و خلافه حيث كان صديقا أيضا لعبد العال يلزمه دون أن يكون.. بسبس، علينا..
يتولي (عصفور) تنظيف أطباق الفول التي نتسلمها يوميا من السوس الذي لا تخلو منه..فولة، واحده حيث يضعها على التوتو مع الطماطم والبهارات.. أخبرنى (أبو حصيرة) يوما ملاحظة غريبة على طبق طبق الفول، فقد رآه يتحرك بعيدا عن المكان الذي يضعه فيه من تلقاء نفسه..
و حينما سألته عن تفسيره الشخصى ينطلق ضاحكا: أكيد السوس بيحركه.. في بعض الأوقات كان يحضر لي أكلة (المعتقل) المفضلة.. جبنه قديمة مخلوطة بالمش.. يضعون عليها كميه من العسل ثم تهرس معه ويأكلونها بالخبز..
شعراوي جمعة وحمزه البسيوني
في البداية أحسست بالقرف لكننى بالتعود أدمنتها وأصبحت أكلتي المفضله.. كنت أعاني من اليوم المكرر والمقرر.. أزور كل العنابر وأستمع لمئات الحكايات التي يلعن أصحابها (عبد الناصر و شعراوي جمعة وحمزه البسيوني وحسن نصر وحسن طلعت)..
الغريب والذي أتعجب منه حتي اليوم هو حب عنبر الشيوعيين لعبد الناصر والدفاع عنه والتفاخر بأنهم ناصريون.. انفصام غريب جدا لم أجد له تفسيرا فكريا أو فلسفيا او حتى نفسيا حتي الآن..
عندما ناقشت مع أحد الأصدقاء المثقفين حول هذا الموضوع قال لي: القط بيحب خناقه.. كان أكثر ما يدهشنى هو كراهية عنبر الشيوعيين لي و خصوصا (سعد هجرس) .. كراهية لا يبررها ادعاءاتهم بالرحابة الفكرية و سعة الأفق الثقافي الذى من المفترض أن يتسع لكافة الأفكار:
إخوانى.. ويا شيوعي .. صوتهم باين.. فى (المنتصف)..
أنا كنت بايس إيدك العسكرى..
ويا الجبان .. والخاين.. فى المعتقـل..
سَبُوا في دين أجدادك..
إخواني.. ويا شيوعي.. دول أصحابي..
إخواني.. ويا شيوعي..
دول مش منى الفقر..
لما لمحته حاضن بابي زاد سِني..
أحلفلك.. كتيرعن سِني فى العنبرين..
حاسس بغربة تقيلة.. عنبر غريب..
والتاني أغرب منه لا حد فيهم يوم سأل ع الحالة..
ولا حد فيهم كنت ناوى أأمنُه..
يا (نشاط معادى (ليّ (بُرش) ف زاوية..
بالبطانية.. عملت أوضة لقلبي..
لو كنتي ع الإخلاص بقلبك ناوية..
ياللا ادخلي نامي بروحك جنبي ولا كانلي..
غير في الشعر.. مالى ومالكُم..
الحبسة.. ليلها طـويل.. يا ويلك يا امه يا ابه..
وحق الله.. حزين من حالكم.. ولا تعلموا..
يمكن تزول الغُمة..
الريحة باينة.. في العنابر سخنة..
ضيق التنفس.. ليل نهار ملازمني..
دَقوا مسامير الخداع في نافوخنا..
أنا قلت.. قول الكدب..
ما يلزمني سماعه قدام العنابر..
واحنا.. قاعدين بنسمع في أغاني الهيصة..
لما الشاويش ينكش بسيفه جراحنا..
ويا اليهود.. نرقص مع الرقاصة ويا البرامج..
والقناة الأولى.. نسهر..
وندخل في القناة التانيّة ع الشاشة..
كل الناس جثث مقتولة..
والدنيا زي ما قالوا.. صبحت (فانيّة)..
يا فانية.. يا أم الثانية.. كيلو مربع..
إيه اللي جابني..
زنزانات الجيفة قاعد على قياس الصلا متربع..
والوالي.. سجادته حرير فـى قطيفة..
فيه ألف (بسبس).. مزروعين في العنبر..
بيدوِنُوا (التقـرر) بحبر مزيّف..
مليون سنة في الليلة.. قلبي بيكبر..
وصاحبنا فى روسيا الجليد.. بيصيّف
قطرك ما زال .. قدامه سكه طويلة..
آه يا (سوهاج) الحب..
سيبتك بدرى كل اللى نام حواليّه..
ناس مقتولة.. من بعد ما قتلوا نجومى وبدري..
كل الدقون ويانا مش (متحدو)..
وصلاتنا حتى عن صلاتهم تِفرق..
بيألفوا قرآن شريف فى القعدة..
هاجمونا خلونا فى روحنا بنغرق..
جوه سجونك كان خيالى يشوفك..
قاعده تِنَقِّى الرُز للى سَجَنِّى..
آه يا حبيبة القلب يسلم شوفك..
يا اللى جعلتينى أزيد عن سِنِّي
آه يا سجين (المزرعه) يا معفر.. قاعد تبص علينا..
حاسد فينا واحنا هنا زيك فى عيشة تِكفَّر..
ولا حد حاسس بينا م اللى جابُونا..
يا مصر وحياة المبادئ جايلك..
شايلك فى قلبى وروحى مش هانساكى غلطانة..
لكن برضه هاجى أحايلك..
علشان تسيبى (قلة) فوق شباكي.
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد