بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
من المؤكد أن المصريين القدماء أهتموا بالجسد الإنساني والحيواني، بل والحشرات والنباتات، وهذا ما وصل إلينا من البرديات المدونة، واللوحات الجدارية التي تتحدث عن هذا، ويبدو أن فكرة (الجسد) شغلت بال الكهنة المصريين، فبعد انحرافهم عن عقيدة التوحيد، وقاموا باختراع آلهة من البشر مزعومة.
وهؤلاء البشر عاشوا وماتوا في الزمن السحيق، مما جعلهم يفكرون في إعادة تشكيلهم في حاضرهم المعاش، وقاموا بتأليف أسطورة مخترعة خاصة بملوك مصر في الزمن السحيق والتي أطلقوا عليهم (نتر – بمعنى آلهة)، وظهر هؤلاء الآلهة كتابة في أسطورة إيزيس و أوزيريس.
واختاروا تسعة منهم، وهم أهمهم تقريبا، ووضعوهم في صورة تاسوع إلهي، وهذا التاسوع ظهر كشخصيات بشرية تمثيلية عن طريق (الجسد) في المسرح المصري القديم، ومن أهمهم أوزيريس (ملك مصر العادل العامل على نهضتها الحضارية في الزمن السحيق).
وقد حدث شجار بينه وبين أخيه ست على ملك مصر، وكان ست يحاول قتله عده مرات، ولكنه يفشل، وهذا ما نتعرف عليه من خلال هذا المشهد: الذي يوضح تقسيم مصر نتيجة هذا الصراع.
المشهد التوضيحي:
(وبعد فشل ست في محاولة اغتيال أخيه، قام بعمل ثورة ضده، واشتعلت الحرب في أركان البلاد، واستمرت ما لا يقل عن تسعة وعشرين عاما، وانقسمت البلاد بين الجزء الشرقي وهو تابع لأوزيريس، والغربي الخاص بست، وانتصر أوزيريس على ست).
من هذا المشهد يتضح أن مصر تم تقسيمها إلى جزئيين، بين أوزيريس وست، ولكن أوزيريس استطاع هزيمة ست وتوحيد البلاد، ولكن ست ينجح في قتل أوزيريس، ويصور لنا المشهد التالي كيفية قتله
مشهد القتل:
(أخذ ست يطارد أوزيريس، حتى قام بقتله، بطريقة بشعة جدا، وبعد موته توجد رواية أنه ثنى (الجسد) على شكل بيضة، واستعان بجلود ثورين اسمهما (منفى وأبيس)، وأخذ جلد الأول وصنع منه المركب الجنائزي، وجلد الثاني أخفى به جثه أوزيريس).
وفي رواية أخرى لم تأخذ شهرتها إلا في الدولة الحديثة نجد مشهد آخر يصور إحياء أوزيريس في المرة الأولي ، فيعلم ست بذلك ويقوم بقتله و تقطيعه:
مشهد تقطيع أوزيريس:
(قام ست بتقطيع جسد أوزيريس إلى أربعة عشرة قطعة، وهذا ما فعله بأخيه)، وهكذا نلاحظ أن أوزيريس قام من الموت مرتين، وفي الثانية تم تقطيع أجزاء جسده، ولكن تم تجميعه وتحنيطه، ولذلك قدس الكهنة والشعب التابع لهم (الجسد) الإنساني، وقاموا بتأليف فكرة ما مفادها أنه ذو طبيعتين، وهذا ما نلاحظه في مشهد يجمع بين أوزيريس وأمه نوت.
مشهد الطبيعتين
(أن نوت أخبرت أوزيريس بطبيعته المزدوجة (إلهية ودنيوية) وأخذت تعده وتؤهله لكي يخلف أبيه في حكم مملكته، واخترعوا ما يسمى باللاهوت والناسوت، بمعنى أن أوزيريس عاش وجمع بين طبيعة بشرية وإلاهية).
وبتحليل تلك الفكرة، نلاحظ أن الطبيعية البشرية هى أنه يعيش ويتزوج، ولكن عند موته فهو يقوم ثانية من الموت (مرتين)، وهذه الفكرة الخرافية عند تحليلها نلاحظ أن أوزيريس لم يقوم من الأموات، ولكن سحر إيزيس هو الذي أحياه، فقيامه من الموت تم بعمل سحري لم يراه الكهنة أو الشعب.
وعند تقطيع (الجسد)، تم جمعه وحنط، وثم جعلوه إله عالم الموتى، حتى يجعلوا فكرة حياته ممتدة، ولكنها غير منظورة وتكون حياته في عالم الموتى.
ومن تلك الأفكار الخرافية ظهرت خرافات عديدة انعكست في صورة دينية خاصة بالجسد، وأصبح لكل عضو من أعضاء (الجسد) الإنساني الحى (حركة، وإشارة، وإيماءة، والعلة من ذلك أن تلك الأعضاء الجسدية تستمد طاقتها من الآلهة المزعومة.
وعند الموت يتحول الإنسان إلي إله شبيه بأوزيريس، وبظهور فكرة تقيع جسد أوزيريس في الدولة الحديثة ، انعكست هذه الفكرة الخرافية على المستوى السياسي المصري القديم، فنشأ صراع بين المدن المصرية على الاستحواذ والنفوذ السياسي والعقائدي.
وتنافست جميع المعابد للاستحواذ على جزء من أجزاء هذا الإله، فمثلا كان العمود الفقري لمدينة بوزوريس، والساق لجزيرة فيلة، والرأس لمدينة أبيدوس، والعضو الذكرى لمدينة مندس .. إلخ.
وانعكست تلك الفكرة على الفنون المصرية، وخاصة فنون التمثيل، ونشأت احتفالية خاصة بالعضو الذكرى لأوزيريس ذكرها هيرودوت كالتالي:
(وقد كان المصريون يقيمون احتفالا لأوزيريس، ويخرجون في مواكب، وقد كانت النساء تحملن الأعضاء التناسلية الذكرية المنحوتة وتحركنها بواسطة خيط)، ويشير هيرودوت إلى أنه يكاد يكون احتفال المصريين بعيد (ديونيسيس) أن يشبه من جميع الوجوه احتفال اليونانيين به فيما عدا الرقص.
وقد ابتكروا تماثيل بدلا من المذاكير، طول التمثال منها ذراعا، يمكن تحريكها بواسطة خيط، تطوف به النساء في القرى، وعضو التذكير بها متحرك لا يقل كثيرا في طوله عن باقي الجسم، ويتقدم الزمار الموكب، تتبعه النساء اللائي تتغنى بديونيسيس.
وتظهر إيزيس على الجداريات المصرية وهى تجلس على قضيب أوزيريس، لكي تحمل منه عند موته، وأطلقوا على هذا المنظر أنه (حمل بلا دنس)، أي أنها حملت من أوزيريس وليس من شخص آخر.
وتظهر هذه المشاهد في العروض المسرحية، وقد قيل أن مشاهد تقطيع الجسد عند أوزيريس في العرض المسرحي تتم في غرفة الأسرار، بعيدا عن أعين المشاهدين، فهي مشاهد بشعة جدا، وتتوالى المشاهد إلي أن يتم جمع جسد أوزيريس وهذا يظهر في مشهد التحنيط.
مشهد (تحنيط جثة أوزيريس):
(بعدما قام ست بقتل أوزيريس، وقام بتقطيع جثته، قام أنوبيس بمساعدة إيزيس في تجميع الجثمان، وقام بتحنيطه ولفه في الكتان).
وبعد ذلك تظهر إيزيس حامل من أوزيريس وهى تواجه ست، حتى تضع حورس وتربيه وتنتقم من ست، عن طريق قتال حورس لست، واسترداد عرش مصر.
وهكذا نلاحظ أن فكرة تقديس (الجسد) هى فكرة مصرية قديمة مخترعة، فقد ظهرت في الاحتفالات العامة الخاصة بالشعب، وظهرت في مسرحية الأسرار، ونتج عن ذلك انحراف في العقيدة التوحيدية، عن طريق الكهنة، موهمين الناس بأنهم سوف يصبحون آلة عند موتهم.
لذلك لجوء إلى التحنيط وحفظ الجثمان، وبهذا نكون قد قدمنا فكرة تحليلية عن (الجسد )الذي ظهر كجسد مقدس (أوزيريس) في المسرح المصري القديم.