رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: (نزلة الدويك).. حمار.. سيارة.. قطار !

كان في الانتظار 14 حمارا.. كل حمار يحمل على ظهره خفيرا ببندقيته

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

بعد انصراف الحمار الذي أوصلني قريه (نزلة الدويك) – التابعة لأم دومة مركز طما.. استقبلني زملاء المهنة.. أخبروني أن المدرسة شبه مهجورة.. وأن العامل هو الناظر.. وهو المشرف.

وأن المدرسة غير تابعه للإشراف.. لأن المسافة ثمانية عشر ساعة ممتطيا ظهر (حمار) تحت الشمس من (أم دومة) حتى (نزلة الدويك).. تعجبوا من انتقالي الى هذه البلدة التي تعيش في أحضان الجبل بمنازلها الخالية من الشبابيك.. والتي مازال فيها ممنوعا على المرأة الخروج إلى الشارع.. وينحصر طعامهم بين خبز الشمس والطمام.

هناك في (نزلة الدويك) كانت فرصه لتأمل مصر من الداخل.. بعض الأهالي هناك حملونى السلام للملك فاروق بمجرد أن أعود لمصر!.. والبعض الآخر أو معظمهم لا يعلمون شيئا عن العملة النقدية المتداولة الآن .

ذهبت إلى المدرسة في (نزلة الدويك) التي سأعمل بها..  بقايا الأبواب مفتوحة للقرية بأكملها.. استعمل الأهالي الفصول كدورات مياه عمومية.. أخذت كرسيا مكسورا واستندت إلى الحائط  أكتب قصيده (المنفى)، وهى من أجمل ما كتبت في حياتي. أرسلتها لبعض أصدقائي في (المنصورة) من خلال الزميل (مازن) الذي كان يسافر إلى طما  لرؤيه أهله.

بعد مرور عدة أيام في (نزلة الدويك).. فاجئنا ذات ظهيرة ونحن جالسين في شبه المنزل طرقا شديا على الباب كاد يحطمه.. انطلق (مازن) فزعا يفتح الباب.. سمعنا من في الخارج يسأل في خشونة: أنت (إبراهيم رضوان)؟

التفت لى الجالس بجانبى معلقا: أخ خ !

أنت إبراهيم رضوان؟

المدعو (إبراهيم رضوان)

طالبت الجالسين بالهدوء.. خرجت لاستقبل السائل الذى كان يصيح بأعلى صوته أي قصقوصة ورق تخص المدعو (إبراهيم رضوان) لازم تسلموها لنا فورا وإلا يبقى بتعرضوا نفسكم للسجن .

خرجت  متسائلا: قدم لى نفسه (مدير أمن سوهاج).

أنا زعلان منك يا فندم.

اشمعنى يا بيه؟

لو كنتم بلغتونى انكم عاوزنى كنت جيت لعندكم بدل المشوار دا.. ولو عاوزين تقبضوا عليا ياريت سعادتك تورينى تصريح النيابة.

نقبض عليك ايه بس يا أستاذ (إبراهيم ).. احنا هناخدك معانا لمكان قريب مننا علشان تسهل علينا مراقبتك.

لم يكن أمامى خيار سوى تصديقه.. من غرفتى تناولت شنطتى الجلدية المغلفة بغطاء من الدمور.. وبمجرد ظهورى بها انقض من معه عليها بينما المدير يلقى بتعليماته: سجلوا كل سنتوفة تلاقوها في الشنطه.. سلموها لأى حد من زملاته بايصال يوقع عليه .

مش سعادتك بتقول الهدف انكم هتودونى مكان يسهل مراقبتى.. لازمته إيه بقى أسيب شنطتى هنا؟

دى أوامر عليا.

على جثتى بقى خروجى من هنا من غير شنطتى .

في النهاية سمحوا لى باصطحاب حقيبتى.. خرجت معهم .

كان في الانتظار 14 حمارا.. كل حمار يحمل على ظهره خفيرا ببندقيته.. قادونى إلى ركوب إحدى الحمير والذى يشوب سيره عرج مؤذى لحامله.. تركوا لى الحقيبة تشاركنى ظهر الحمار الضيق عقابا على إصراري اصطحابها فتزيد مع عرج الحمار من آلام الرحلة .

سألت راكب الحمار الأيمن: لماذا كل هذا الموكب الحميري؟.. أشاح بوجهه عنى ..

تكرر السؤال و إشاحة الوجه للراكب عن يسارى .

ثبت وجهى في الأمام أعانى في صمت من مزاحمة الحقيبة وعرج الحمار تحتى وتعثره  بحفرات الطريق .

لاحظت أننا كلما مررنا بقرية بعد أن غادرنا (نزلة الدويك).. انحرف عن موكبنا حمار أو اثنين براكبيهم من أهالي تلك القرية.. تكرر ذلك طوال الطريق.. و صلت (أم دومة) وليس بصحبتى إلا القلة المتبقية من موكب الحمير.

كانت سيارة ضخمة في انتظارى هناك.. دفعونى للجلوس بداخلها.. بعد دقائق كان إلى يسارى رتبة عليا وكذلك إلى يمينى.. انطلقنا في رحلة جديدة إلى سوهاج .

بينما هم يصحبونني إلى سوهاج في سيارة الشرطة  المزدحمة بالرتب.. كانت حدة التوتر من ناحيتى والتوجس من ناحيتهم قد خفتت قليلا.. التفت لي أحدهم يسألنى: مدرس في بلد زى اللى أنت فيها دى لو أدى دروس بس طبعا هيحوش مرتبه كله.. يعنى يوفر له كام فى السنه كده؟

أخبرتهم أن قرية (نزلة الدويك) بلا تلاميذ

قرية (نزلة الدويك) بلا تلاميذ

أخبرتهم أن قرية (نزلة الدويك) بلا تلاميذ .

بعد طريق طويل.. وصلنا سوهاج.. مبنى أمن الدولة .

 طلبوا منى الجلوس في احدى حجرات المبنى..الجو حار.. خانق.. سألت أحد الجالسين معى في الغرفة عن سبب زيارته للمكان؟

جاى أزور واحد بلدياتى.

سألت آخر: جاى أبلغ عن حادثة.

سألت الثالث.. لم يرد بكلمة.

من جلستهم المتناغمة مع المكان.. وهمزاتهم ولمزاتهم المتبادلة.. أدركت أن كل الجالسين في الغرفة هم من أمن الدولة.. وأننى الآن قيد الحجز.. ولست هنا لأكون قريبا منهم لتسهيل المراقبة كما زعم مدير الأمن الذى اختفى تماما.

جلست وتكتكات جيش من الآلات الكاتبة تدق كل أرجاء المبنى .

 بعد فترة صرخ أحدهم في ضجر: ما تخلصوا بقى يا جدعان.. القطر المجرى احنا معطلينه في المحطة بقاله ساعه إلا تلت بحجة انه فيه عطل بيتصلح.. والركاب على آخرهم.

ياللا بينا يا أستاذ (إبراهيم).

على فين؟

مشوار كده مع بعض.

خرجت معهم.. كانت الإضاءة في الخارج خافتة حيث تنتظرنى سيارة دفعونى لدخولها بسرعة.. قبل أن أستوى في جلستى كان قد ارتطم بجانبى الأيسر مندفعا في جلسته رجل ضخم.. بنفس الاندفاعة الهجومية ارتطم بجانبى الأيمن شخص أضخم.. أسرعت رتبة عليا بالجلوس إلى جوار السائق في الأمام .

لغة جسد الجالس عن يمينى تعبر بكل مفرداتها عن شدة كراهيته لي.. كان يتعمد دفع كوعه الغليظ – الذى أوحى لى بكثرة تناوله للفتة-  في جنبى ليذكرنى متألما بأنى لم أتناول لقمة منذ هذا الصباح.. بصوته الخشن الذى يقطر بكراهيته لى سأل الرتبة الجالسة في الأمام – أكلبشه يا بيه؟.. كلبشه .

غلق الكلابشات المعدنية الباردة الثقيلة.. مؤكدا إغلاقها بتكة كريهة

غلق الكلابشات الباردة الثقيلة

احتججت بأنى سياسى ولست سارقا لبطة كى تكلبشونى.. لم يأبه الكاره لي وتناول يداى في قسوة وهو يزيد من ضغط كوعه على كليتى محكما، غلق الكلابشات المعدنية الباردة الثقيلة.. مؤكدا إغلاقها بتكة كريهة كان لصدى صوتها صوت باب عالم يغلق عليك وحدك.

سالت من عينى دمعة لم أنتبه لانبثاقها كى أمنع تساقطها.. كل ما تمنيته لحظتها أن لا ينتبه لهبوطها على خدى أحد منهم .

وصلت السيارة إلى محطة سوهاج ليلا..  القطار على الرصيف يهدر بموتوره في غضب ويزعق بكلاكس هائل معبرا عن شدة ضجره لطول انتظاري .

فاجئتني على المحطة حشود من الأهالى في استقبالى بوشيش جماعى لمئات (الكلوبات) ذات الرقبة الضئيلة.. التي تميل كلها نحوى في تهديد وكأنها مدافع رشاشة.. حاول البعض الاعتداء عليّ.. كنت أتفادى أياديهم وأنا أميل بجسدى المنحنى لأمتلئ شعورا بذنب لا أعرفه.

عرفت بعد ذلك أنهم قد أشاعوا بين هؤلاء الأهالى أنهم قد قبضوا على من كان يريد قتل عبد الناصر.. وأنهم قد حاصروه في الجبل الذى كان هاربا إليه في (نزلة الدويك).. وأنه سيتم ترحيله في هذا القطار.

حتى هذه اللحظة لا أدرى كيف استطاعوا في هذا القطار المزدحمة عرباته عن آخرها أن يفرغوا لى أنا – والحديد في يدى – و المرافقين لى عربة كاملة.. عربة مخصصة للضيف شديد الخطورة.

بمجرد أن جلسنا اقتحمت فتاة صغيرة العربة تهدر غاضبة بألفاظ بذيئة إلى مرافقى لأنهم ضحكوا عليهم وأخذوا أبيها من بينهم على وعد بإعادته في نفس اليوم.. لكنه لم يعد إلى الآن.. أشفقت الفتاة على منظرى في الكلابشات.

طالبتهم بالافراج عنى لأنهم بذلك يتعرضون لغضب الله.. ضحكت في سرى لأنها تظن فيهم مقدرة بينما ما هم إلا عبدة مأمور .

تحركت العربة.. صفوف مقاعدها فارغة تماما إلا من صرير احتكاك العجلات بالقضبان تنهبها ناحية القاهرة .

عرفنى قائد المجموعة بنفسه – العقيد شفيق – انطلق في فخر يحكى لى كيف بدأ خدمته الميرى مجرد كونستابل، لكنه بإرادته الحديدية أكمل دراسته متحديا كل الظروف حتى وصل الى ما هو عليه الآن من مكانة مستحقة .

أصابتنى فجأة حالة من الضيق الشديد في التنفس.. أخرج (العقيد شفيق) من جيبه قرص مهدئ.. هي المرة الأولى – و ليست الأخيرة – التي أتناول فيها المهدئات .

حاولت النوم مع هدهدة القطار دون جدوى.. شخير جماعى للمرافقين معي في نفس العربة

شخير جماعى للمرافقين

حاولت النوم مع هدهدة القطار دون جدوى.. شخير جماعى للمرافقين لي يرتفع في اطمئنان ورضى بصيدهم الثمين.. بينما سارينة القطار الحادة لا تنقطع، وكأن سائق القطار يزف للمحطات نبأ الصيد الثمين الذى يقوم بنقله إلى مصير يستحقه .

لمحت عيونا وسط ظلمة المقاعد الفارغة ترمقنى في ود.. نهض فجأة واقترب منى محاذرا.. تلفت وهو يهمس: الأحوال بقت وحشه قوى يا باشمهندس.

لم أسأله عن اسمه.. تماما كما حدث في موكب الحمير.. بادرني: خدامك (صابر).

تحت أمرك يا عم (صابر).

انتم الأمل اللي إحنا مستنينه.. ابقى  خللى بالك مننا في الثورة والنبى يا باشا.

كدت أنفجر ضحكا.. حبست موجة الضحك في حلقي.. صعدت إلى عيناي..  سالت موجة الضحك دموعا صامتة.. بينما القطار مستمرا في نهب الطريق إلى المجهول دون أن ينقطع عن تمزيق صمت الليل  بسرينته العالية المبتهجة بالصيد الثمين ..

و

مبنى الدعارة اتخنق

من ريحة الأنجاس

شاعر فى يومها اتشنق

على باب بلا إحساس

…………………..

مسجون من الخنازير

علشان نطق بضمير

واللى عليه الدور

ممسوك من الطراطير

…………………..

يا أغبى خلق الله

تقريركوا مش موزون

العدل فين نلقاه

يا ميزان فى إيد الدون

…………………..

التُهمه إيه يا دياب

يا كلاب لسُلطة سراب

دا (كتاب) كتبته عشان

يفتح لمصر الباب

…………………..

باب السجون مفتوح

للى هاينطق يوم

يا اللى انتى روح الروح

إعفينى لو مظلوم

…………………..

اكتب كمان تقارير

واكدب على الأوراق

آدى رئيس تحرير

معظم كلامه نفاق

…………………..

آه يا عصابة بدون

أخلاق.. بدون مبدأ

أنا ليه بقيت مسجون

علشان قدرت انطق

…………………..

موعودة بالعصابات

والكبت والتزوير

محكومة بالظباط

مشكومه بالمآمير

…………………..

ع البُرش قاعد اقول

إنك شموس الكون

لكن سعادة الصول

قال دا كلام مجنون

…………………..

يا أمى.. ذنبك إيه

يوم الزيارة رهيب

يمكن جناب البيه

يعفى.. بأمر الديب

…………………..

كل الصحف إعلان

للحاكم العربيد

نفسى أشوف إنسان

ماشى بدون القيد

…………………..

الكرسى فوقه تيران

صبحت يا أمى أسود

والصاحب الغلبان

للقلعة نفسُه يعود

…………………..

لسه العيون قافلين

ع (البرش) والمساجين

آه يا (ياسين) يا يتيم

الأم رايحه لفين

…………………..

يا (تُهمة) لون الليل

يا قلوب ماليها الزور

لو مات صهيل الخيل

الأرض تصبح بور

…………………..

أخرج؟.. يا ريت علشان

أقدر أعود للناس

قلب الوطن قلقان

من خُطبة

(الوسواس)

من كتاب: (مدد.. مدد)

سيرة ذاتية لبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.