ليلة روائع (عبد الوهاب) تميزت بالتحدي والطرب والجمال والعذوبة بقيادة (وليد فايد)
كتب: أحمد السماحي
لم تكن ليلة (عبد الوهاب) التى أقيمت أمس على مسرح أبوبكر سالم في الرياض، والتى أقامتها الهيئة العامة للترفيه، وبتنظيم من شركة (بنش مارك)، ليلة عادية مثل كل الليالي التى أقيمت في (موسم الرياض).
وكيف تكون ليلة عادية، وهي ليلة الموسيقار الخالد (عبد الوهاب) الذي كتب اسمه بحروف من نور في تاريخ الأغنية العربية؟!
وكيف تكون ليلة عادية، ومن يحييها خمسة من أجمل الأصوات العربية الموجودة اليوم على الساحة الغنائية، الذين سيقف تاريخ الموسيقى والغناء عندهم كثيرا، ويعطي كل منهم حقه، وهم (محمد ثروت، نور مهنا، صابر الرباعي، ماجد المهندس، مي فاروق)؟
وكيف ستكون ليلة عادية ومن يقودها المايسترو المبدع (وليد فايد)؟!، الذي يتلبسه اللحن ويجري في عروقه مجرى الدم، لا تخفى منه آهة، حتى ولو كانت بمقدار زنة خاطفة من جناح بعوضة تموت لحظة أن تولد.
عشت أمس خمس ساعات كنت أتمنى ألا تنتهي من المتعة والطرب والأصالة، والموسيقى العالمية التى نفتقدها بقوة هذه الأيام، وكان المطربيين الخمسة في أفضل حالاتهم الغنائية، كل واحد منهم كان غولا غنائيا، وليس مطربا عاديا!
محمد ثروت والتحدي
من يصدق أن محمد ثروت في هذا العمر يغني بكل هذا الجمال والعذوبة والسلطنة والقوة، كوكتيل من أغنيات موسيقار الأجيال (عبد الوهاب) التى أنشدها في حقبتي العشرينات والثلاثينات.
وهى (موال أشكي لمين الهوى، لما أنت ناوي تغيب على طول، إمتى الزمان، خايف أقول) ورائعة عبدالحليم حافظ وعبدالوهاب وحسين السيد (أهواك).
من أين أتى محمد ثروت، ـ الله أكبر وبدون حسد ـ بهذا الصوت الذي رج وهز أركان المسرح وجنباته، وجعل الجميع في حالة سلطنة؟! وكان مفاجأة الحفل.
في رأيي الشخصي أن (محمد ثروت) طبق مقولة الأمير (هاملت) فى مشهد الراهبات في مسرحية (هاملت) الشهيرة لشكسبير (أكون أو لا أكون)! كان في حالة تحدي، مع نفسه أولا.
وتحد لمن لا يعطيه حقه في بلده، وتحد ليثبت لأستاذه ومعلمه وملهمه (عبد الوهاب) أنه مازال على العهد، وأنه لم يخن الأمانة، ولم يفرط في صوته ولم يبتذله بغناء كلمات تافهة أو ألحان ضعيفة مستهلكة.
وأكيد تذكر قبل الصعود إلى المسرح حفله الذي لا ينسى لتكريم موسيقار الأجيال (عبد الوهاب) في قاعة (ألبرت هول) بلندن، عندما غنى رائعة (في الليل لما خلي)، وتذكر الكلمات التى خصها به معلمه (عبد الوهاب) بعد انتهائه من الغناء.
(نور مهنا) وفكروني ومضناك
لم يكن (محمد ثروت) فقط هو الذي كان في حالة تحدي في ليلة روائع (عبد الوهاب)، فالمطرب السوري (نور مهنا) الذي لم يأخذ حقه من الدعم والمساندة، والذي لا يعرف أحد عنوانه ولا مكانه!!، كان هو الآخر في حالة تحدي لفرص لا تأتيه، ومتعهدي حفلات لا يستعينون به في حفلاتهم.
وتحدي خاص ليثبت لجمهوره الحبيب في سوريا البعيد عنها أنه مازال ابن سوريا البار سفيرها خارج الحدود الذي يرفع اسمها عاليا بجمال صوته وعذوبته، ويؤكد لها أنه في كل بلد خارج الحدود يعبر عن وفائه للحب الذي تلقه داخل الحدود.
كان (نور مهنا) في حالة صفاء، وتركيز، وحب وهو يغني، فأنشد، فتجلي، فأبدع، فأطرب الجميع وهو يغني (مضناك)، و(فكروني) ومقطع بدون موسيقى من رائعة (ليلة الوداع).
(مي فاروق).. أغدا ألقاك
كانت (مي فاروق) رابع عناقيد الطرب في ليلة روائع (عبد الوهاب) هى الأخرى في حالة تحدي شديد، تحدي لنفسها وقدرتها على الغناء على مدى يوميين متتاليين في حفلات كبيرة ومهمة، أولها حفلها يوم الخميس 24 أكتوبر في ختام مهرجان الموسيقى العربية.
ثم حفلها ثاني يوم مع (عتاولة الطرب) في العالم العربي، وأثبتت لنفسها أولا قبل أن تثبت لغيرها ممن راهنوا على أنها ستكون أقل واحدة في الحفل، نظرا للتعب والسفر، أنها يمكن أن تدخل موسوعة (جينيس) في الغناء.
وغنت (مي) أغنيات صعبة مثل (أغدا ألقاك) و(أمل حياتي) تحتاج إلى تركيز ومقدرة في الغناء، واستطاعت أن تحلق بهما في السماء وتطرب الحضور، وتشعر جمهور المنازل أنها تغني بسهولة ويسر وتمكن شديد.
(صابر الرباعي).. يا مسافر وحدك
كان من المفترض أن أبدأ موضوعي بنجم الأغنية التونسية المطرب صاحبة الحنجرة الذهبية (صابر الرباعي) لأنه هو أول من بدأ ليلة روائع (عبد الوهاب).
وهيأ الجمهور بصوته وأدائه المتمكن، من خلال (يا مسافر وحدك) و(كل ده كان ليه) لليلة استثنائية، وعندما غنى رائعة (أم كلثوم محمد عبد الوهاب ومأمون الشناوي) أغنية (ودارت الأيام) بصم بحروف من ذهب على هذه الأغنية.
وقد أجلت الحديث عن (صابر الرباعي) لأن التحدي الخاص به في (ليلة عبدالوهاب) تحد خاص به وحده، وهو حبه وعشقه لـ (عبد الوهاب) حيث فتح عينيه على أغنيات هذا العملاق المصري، وكثيرا ما رددها في برامج الهواة التى أشترك فيها.
كما أن (الرباعي) يعتبره المثل والقدوة في عالم الغناء، كملحن ومطرب لم يقترب أحد من مكانته.
(ماجد المهندس).. فاتت جنبنا
آخر من غني في ليلة روائع (عبد الوهاب) هو المطرب (ماجد المهندس) الذي قدم اثنين من العلامات البارزة في مشوار (عبد الوهاب)، وهما رائعة (فاتت جنبنا) كلمات حسين السيد، وغناء العندليب عبدالحليم حافظ، كما قدم أغنية (أنت عمري) والتى تعتبر لقاء السحاب التي جمعت (عبد الوهاب) بكوكب الشرق (أم كلثوم) عام 1964.
وكان التحدي بالنسبة لماجد المهندس، كيف سيغزو القلوب في ليلة (عبد الوهاب) وهو لا يملك قوة الأصوات الموجودة في الحفل من زملائه سواء (صابر الرباعي أو محمد ثروت، أو نور مهنا، أو مي فاروق).
لكن إحساس (ماجد المهندس) الصادق، واختياره الذكي خاصة في أغنية (فاتت جنبنا) أنقذه من الخسارة في التحدي الشرس الذي شهدته خشبة مسرح (أبوبكر سالم).
وغني (ماجد المهندس) بإحساس خاص جدا وأوصل ما يريد اصاله لجمهوره بشكل ذكي في تكنيك الغناء.
(وليد فايد).. البطل الخفي
كان البطل الحقيقي والخفي في (ليلة عبدالوهاب) هو الموسيقار والمايسترو (وليد فايد)، الذي برع في القيادة، وهذه البراعة نتج عنها موسيقى عالمية، فمن اللحظات السعيدة النادرة عند هواة الموسيقى هى تلك اللحظة التى نرى فيها عصا المايسترو مرفوعة معلقة في الهواء.
وقد خفتت الأضواء، تنتظر أن ينعقد تماما الصمت في الصالة، وتمام الأهبة من أفراد الأوركسترا، وأن يتلاقي حشد أعصابهم فردا فردا في ذروة جامعة واحدة، أن يتولد الخيط الواحد الذي سيسلكهم ويشدهم، لحظة تنتظر أن تتحرك هذه العصا فينطق اللحن.
ما أشبهها باللحظة المضيئة التى يستنير فيها الكون كله، ويتبين كل خفي، ويعود كل ماض، وينكشف كل مستقبل، اللحظة التى وصفها الأديب الروسي (دستويفسكي) أبرع وصف لأنه خبرها، حيث قال: (في تلك اللحظة أحس أن الجمال قد ارتقى إلى مرتبة الإنسان وتهيأت له الفرصة لأن يحدثنا عن ضميره، وعن فرحه، ووجعه).
تحية تقدير ومحبة للهيئة العامة للترفيه بالمملكة العربية السعودية برئاسة المستشار (تركي آل شيخ)، و(شركة بنش مارك) على جهودهم الحثيثة بالاهتمام بالتراث ونجوم الغنائي المصري والعربي، وما يقدمونه من ليالي غنائية تتسم بالبهجة والشجن، وهو ما يصيبنا حتما بالمتعة، رغم الأجواء المفعمة بالغضب في عالمنا العربي.