بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
كلنا (مرضى نفسيون)، هذه حقيقة ينكرها كثيرنا، ويخجل من كشفها الناس على اختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم الاجتماعية والثقافية والتعليمية، نتقبل الأمراض البدنية أياً كانت مدى خطورتها، ولا نتقبل مجرد التفكير في المرض النفسي مهما كانت تأثيراته على حياتنا.
نخفيه عن الناس وننكره حتى أمام أنفسنا، نتعامل معه على أنه عورة ينبغي سترها حتى لا نكون مادة للحديث على المقاهي والمصاطب، ولو بحثنا عن السبب وراء هذا الإنكار المؤذي للذات وللآخرين بل وللمجتمع كله سنجد أنه الموروث التربوي.
فقد زرع الأولون في ذويهم أن المرض النفسي جنون، وأن الجنون عار، وهو ما توارثه جيل عن جيل حتى أصبح عقيدة راسخة يصعب زعزعتها وبالتالي تغييرها.
نعم، يصعب تغييرها ولكن لا يستحيل أن نكون (مرضى نفسيون)، وهو ما يستلزم جهداً إعلامياً لنفي العار والجنون عن المرض النفسي، وترسيخ قيمة أنه لا يختلف عن المرض العضوي، يمكن علاجه والقضاء عليه، وقبل العلاج يلزم الاعتراف بوجوده والتسليم بأنه لا ينتقص من قيمة الشخص المصاب به،.
وأن العلاج منه سيجعل العالم أفضل من حولنا، خصوصاً أن الأكثر إصابة بالأمراض النفسية هم هؤلاء الذين يحولون حياتنا جحيماً، وعلى رأسهم من يشعلون الحروب والارهابيين والمتطرفين والمجرمين والفاسدين والفاسقين واللصوص والمتنمرين والمتحرشين والشواذ.
الاعتراف بأننا (مرضى نفسيون) لن يتحقق سوى بالتوعية، والتوعية وسائلها معروفة ولكنها في حالة غياب كامل عن هذا الأمر، سواء الإعلام أو التعليم أو خطباء المساجد أو الفن.
وبالمصادفة وقع أمامي مسلسلاً تم عرضه في العام 2022 اسمه (أنا وهو)، شاهدته لأجده من نمط الأعمال الهادفة التي نحتاج إليها، حكاية تخرج عن المألوف وتتجاوز المسخ الدرامي الذي أغرق حياتنا بحكايات مكررة ومملة.
تحسين جودة الحياة
المسلسل يناقش المرض النفسي، وضرورة مواجهته من أجل تحسين جودة الحياة، من خلال عدد من النماذج، جميعهم يعانون أمراضاً نفسية تأكيداً من كاتبه مصطفى حمدي ومخرجه سامح عبدالعزيز أننا جميعاً (مرضى نفسيون).
لم يستثن المؤلف من المرض حتى الطبيب النفسي شيرين عبدالوهاب (أشرف عبدالباقي) الذي يعالج البطلين، سليم الذي يعمل في مجال الأوراق المالية، عبقري لديه القدرة على تحليل حركة السوق وتوقع نتائجها على البورصة، ولكنه يعاني من الوسواس القهري والتخيل الوهمي والخجل المفرط والطيبة الزائدة.
والسبب تسلط والدته الذي محى شخصيته وحوله إلى كائن جبان عاجز عن خلق علاقات اجتماعية، ويجسده بتميز الفنان (أحمد حاتم)؛ أما البطلة والتي تجسدها (هنا الزاهد) فهي هند الفتاة التي تعيش وحدها هروباً من خشونة وصلف وطمع زوج الأم، وتحلم بأن تصبح فنانة.
ولكنها نتيجة تعامل زوج أمها معها وما تتعرض له من تحرش في حياتها تتحول إلى شخصية عدوانية عنيفة.
الطبيب النفسي يجعل كل منهما علاجا للآخر، يعرفهما على بعضهما ويطلب منهما التواصل الدائم، حيث يتأثر كل منهما بالآخر ويأخذ من صفاته وسلوكياته مما يساهم في علاجه وتخلصه مما يعانيه نفسياً.
ورغم تناقض شخصيتيهما إلا أنهما يكملان بعضهما ويكتشف كل منهما جوهر الآخر لتتحول العلاقة إلى علاقة حب بمرور الوقت.
الطبيب مريض نفسي، يتوهم أن طليقته حملت منه قبل تطليقه لها وأخفت ذلك عنه، وأن ابنها من زوجها الثاني هو ابنه، ويعيش حالماً باللحظة التي يستعيد فيها ابنه الذي أصبح شاباً ليكتشف في النهاية أنه ليس ابنه وأنها كانت مجرد أوهام.
والدة (سليم) المتسلطة والتي تجسدها الفنانة (سلوى محمد علي)، تلقي بظلال المرض النفسي ليس على ابنها فقط، ولكن أيضاً على ابنتها (ندا عادل) لتجعلها مسلوبة الارادة وزوجها المسخ الإمعة (محمود البزاوي)، وزوج والدة (هند) أيضاً يكون مصدراً لمرض من حوله.
باختصار، جميعنا (مرضى نفسيون)، بعضنا مصدر أو سبب مرض الآخرين، الذين يصبحون بدورهم مصدر لمرض غيرهم، وهكذا دواليك، ومثلما أننا مصدر لمرض بعضنا فقد نكون علاجاً لغيرنا.
علاقة سوية في حياة الإنسان
نعم العلاقات الاجتماعية تكون علاجاً أحياناً، الحب علاج والصداقة علاج وكل علاقة سوية في حياة الإنسان تمنحه القدرة على حل أزماته وعقده النفسية.
المسلسل يشير أيضاً إلى الخجل من الذهاب للطبيب النفسي، إنها ليست أزمتنا نحن المصريين فقط ولكنها أزمة البشرية، وكأن حياة البشر خالية مما يمكن أن يسبب لهم عقداً وأزمات نفسية.
كل ما يحدث حولنا يمكن أن يسبب لنا عقداً نفسية.. ابتداءً من الإنجاب بدون وعي بأساليب التربية الصحيحة، وانتهاءً بما يملأ شوارعنا ومؤسساتنا من تحرش وتنمر، وما يملأ عالمنا من صراعات وحروب، وما يملأ حياتنا من فقر وعوز، وما يملأ علاقاتنا من حقد وضغينة مكتومة.
القضية التي يناقشها المسلسل معقدة، ولكنه يتناولها ببساطة وسلاسة مطلقة وبأسلوب كوميدي ساخر، لتتسلل الرسالة إلى العقول والوجدان، أملاً في أن تتغير أساليب التفكير.
ويؤمن المشاهد بأن المرض النفسي ليس جنوناً ولا نقيصة ولا عورة ولا كارثة، ولكنه مرض له علاج، والعلاج لن يتحقق سوى بالاعتراف ومواجهة النفس بنقائصها حتى تستقيم الحياة.
بالنسبة للممثلين: (أحمد حاتم) نجم قادر على أداء كل النماذج والألوان، و(هنا الزاهد) جمال وخفة دم، و(أشرف عبدالباقي) كبير في الموهبة وخبير في الأداء، و(سلوى محمد علي) تزداد لمعاناً وألقاً كلما ازدادت الخبرة، و(محمود البزاوي) يضاعف رصيده من عمل لآخر.