في ذكراه.. نكشف لأول مرة قصة الأغنية التى أبكت (وديع الصافي) وعجز عن غنائها!
كتب: أحمد السماحي
نحيي غدا الجمعة ذكرى رحيل أحد عمالقة الغناء اللبناني والعربي، (وديع الصافي) الذي رحل عن حياتنا الفنية يوم 11 أكتوبر عام 2013، عن عمر يناهز الاثنين والتسعين عامًا، وأقيمت له مراسم دفن مهيب حضره حشد من رجال السياسة والصحافة والفن.
ودّع اللبنانيون (وديع الصافي) الذي كانت أغانيه لسان حالهم، وذلك بنثر الورود والأرزّ، ومنحه رئيس الجمهورية وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى المذهب، ثم ووري جثمانه الثرى في قريته نيحا، بعد رحلة مليئة بالكفاح والنضال والغناء.
رحل (وديع الصافي) بعد أن أشاد بصوته كبار نجوم التلحين والشعر في مصر والعالم العربي، إذ قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب: (وديع الصافي.. الأجمل منذ ألف سنة، وصاحب أجمل صوت بين الرجال في الشرق).
وقال عنه الموسيقار رياض السنباطي: (لا أتصور أن في تاريخ الغناء كله صوتا بهذه الروعة، وهذا الجمال، وهذه القدرة علي إثارة الشوق، مثل وديع الصافي).
أما الموسيقار اللبناني وليد غلمية فقال: (قبل وديع الصافي كان التلحين رتيبا اجتراريا تافها، لا إبداع فيه، فأتي صوت وديع وقال للملحنين: لحنوا ما شئتم وهناك صوت يؤدي كل ما تكتبون وتبدعون.
فصوت (وديع الصافي) هو الصوت اللبناني بكل ما تعنيه الكلمة، ومع احترامي لكل العاملين في الحقل الموسيقي أقول: لقد تورطنا كلنا في أساليب تلحينية بعيدة كليا عن أجوائنا اللبنانية الشرقية، والذي أنقذنا من هذا الضياع صوت (وديع الصافي) بأصالته اللبنانية).
الأغنية التى هزمت (وديع)
رغم كل هذه الشهادات من كبار نجوم التلحين عن صوت (وديع الصافي)، لكن هناك أغنية تحول فيها القلم إلى قلب، والحبر إلى دمع، والوتر إلى صوت يئن، ويجهش بالبكاء.
أغنية عجز مطرب المطربيين عن إنشادها، كلما حاول انشادها، لا لضعف في الصوت الجبار متعدد المقامات، بل لضعف في الأب الحنون الجزيل العبرات.
ولهذه الأغنية قصة أو (حدوتة) جمعنا خيوطها الذهبية من مجلة (الشبكة) اللبنانية عام 1971، وبدأت عندما انتهت (دنيا) كبرى بنات (وديع الصافي) من إعداد فستان العرس الذي زفت به إلى الشاب المغترب (نقولا حداد).
وتأمل (وديع الصافي) الفستان الأبيض الذي سينقل فلذة كبده من بيته إلى الغربة، وبكى، وكانت بقربه يد رقيقة، مسحت الدموع التى بللت المناديل، كانت اليد، يد الشاعر (يونس الابن) صديق (وديع الصافي) القريب إلى قلبه.
وقال له مطرب المطربيين: (يا يونس، أريد أن أهدي ابنتي من أعز ما وهبتني اياه السماء، أريد أن أهديها من صوتي أغنية أُضمنها حبي، ونصيحتي وأملي، وأنت شاعر وأب، وقادر على نظم هذه الأغنية.
وتركه (يونس الابن) وهو متأثر بما شاهده ورأه، ورجع إلى بيته وتمثلت أمامه صورة ابنته (نايدة) التى تبلغ السادسة من عمرها، وبعد عذاب لا يدركه إلا ذوو الأكباد، انتهى (يونس الابن) من كلمات أغنيته، كما ينتهي القلب من عشق مبرح.
وصية (وديع الصافي) لابنته
حمل (يونس الابن) الكلمات وذهب إلى (وديع الصافي)، وبدأ يقرأ الكلمات التى نشرتها مجلة (الشبكة) عام 1971، والتى كانت تقول:
الله معك، الله معك، يا بنيتي
بعرسك تسبق دمعتي أغنيتي
يا قلب أنقى من النقا، يا زنبقة
ربك عطاني فرحتك عانيتي
هاللى عم بغنيلك مش النسر الطروب
اللي بجرحه (أوف) بيدوب قلوب
االلى قبالك، (بي)، قلبو عم يدوب
وهديتي بساعة هناكي، وصيتي
وخبرة سنين، وصيتي يا بنيتي
إنتي وعريسك عمر، عامفرق طريق
نشالله بعمرك ما تشوفي يوم ضيق
من غير شر، عطيتك لأوعى رفيق
بـ خوف الله سراج دربك زيتي
وعا خيرة الله تيسري يا بنيتي
كوني مثل أمك، وفيه متوجه
قضيت عمري اسهر وروح وأجي
أرجع لبيتي ناطرتني بنفسجه
أغفا بفيتها وتغفا بفيتي
وانسى همومي حدها يا بنيتي
وكوني مثل بيك طموحك للعلى
بـ تعرفيني : (يا العلى، يما بلا)
عندي اسم لبنان عشفافي صلا
وأغلى من كنوز الدني حريتي
من هون بدي تكملي يا بنيتي
روحي معو، هاللي أخد روحي معو
لا تودعيني ولا أنا رح ودعو
بضمو لصدري وصوت قلبي بسمعو
تايزيد عاحبو لكي، حنيني
روحي معو، الله معك، يا بنيتي.
ليلة أن بكى (وديع الصافي)
لم ينطق (وديع الصافي) بكلمة، بل كتم دمعه، ودخل إلى غرفته، وأقفل الباب، وفي الداخل حمل عوده، ونقر على الوتر، فإذا به يرسل نغم الحجاز الحزين، نغم الشرق الساحر، نغم الحب والشعر.
وبعد انتهاء ليلة كاملة، أشرق فيها الفجر، ولم يشرق كبح الدموع أنهى (وديع الصافي) اللحن الذي سكب فيه كل ما لديه من فن ورقة وإبداع، وطواه في صدره حتى العرس، وحتى الحفل الذي أقيم في (طبرجا بيتش).
وقرر أن يغني أغنيته الجديدة هناك أمام الناس، هدية منه لابنته، وتحلق الحاضرون حول (وديع الصافي) يرهفون السمع، وما أن حاول الغناء وقال: (الله معك يا بنيتي) حتى بكى كالطفل الموجوع، بكى وأبكى المستمعين والحضور.
وفي مقدمتهم الشاعر (يونس الابن)، وكلما حاول الغناء تنساب الدموع على خده، ويتحشرج صوته بالدمع، وعندما يبدأ بقول (الله معك يا بنيتي) تنهمر الدموع من عينيه.
واقترب منه الشاعر والصديق (يونس الابن) وقال له: (كفى والحمد الله أنها دموع الفرح يا أخي).
وحبس (وديع الصافي) الأغنية في أحد الأدراج ولم يفرج عنها حتى رحيله، الطريف أنني العام الماضي في الذكرى العاشرة لرحيل مطربنا الأسطورة وديع الصافي سألت ابنه (جورج) عن مصير هذه الأغنية فقال لي: أنه لا يعرف عنها أي شيئ!