بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في زوايا القاهرة القديمة، حيث تتشابك الحارات الضيقة وتزخر الأزقة بصخب الحياة، وُلد (علي الكسار)، ذلك الفتى الذي لم يكن يعرف أن ضحكاته ستتردد في أرجاء المدينة لسنوات طويلة بعد رحيله من خلال أفلامه ومسرحيات القيمة.
في حي (المغربلين) بالدرب الأحمر، كانت ملامح الطفولة تُشكل أسطورته، فقد كان (علي الكسار) مجرد فتى بسيط، ككل أبناء الحي، لكن قلبه كان يحمل عفوية وصدقًا مكناه بالضرورة من أن يصبح أحد عمالقة الكوميديا المصرية، يبعث البهجة في نفوس المصريين.
لم يولد الكوميديان الجميل (علي الكسار) في عائلة فنية، ولم يكن للفن في حياته حينذاك سوى صورة ضبابية بعيدة تماما عن خياله، لكنه كان دائم التردد على قصر عابدين، حيث يعمل خاله طباخًا.
هناك، بين أحاديث السفرجية والطهاة، سمع لأول مرة اللهجة النوبية التي ستصبح فيما بعد جزءًا من روحه الفنية التي حولها إلى شخصيات ومواقف على المسرح وشاشة السينما.
كان (علي الكسار) يقف صامتًا، يسترق السمع إلى تلك الكلمات، إلى النكت والضحكات التي ترافق أحاديث أبناء الجنوب العاملين في القصر، تعلم اللهجة من بين جدران القصر، لكنه جعلها فنه الذي سيُضحك به الملايين من خلال الأفلام التي تركها تزين حياتنا.
لم يكن (علي الكسار) ممثلاً فقط، بل كان رمزًا لأصالة المصري الذي يعيش بين الضحك والدموع، في كل مرة صعد فيها خشبة المسرح، كان يجسد روحًا بسيطة عاشقة للحياة المصرية البسيطة.
كان يعرف أن الجمهور الجالس في القاعة، لا يحتاج فقط إلى ضحكة عابرة، بل إلى جرعة من الفرح الصادق، تُنتزع من قلب الواقع الصعب الذي يعيشه في ظل ظروف قاسية.
أتقن النوبية كأهلها
شخصية (عثمان عبد الباسط) التي أبدع فيها (علي الكسار)، لم تكن مجرد تقليد للهجة النوبيين، بل كانت حكاية عن الإنسانية البسيطة، عن الطيبة التي تسكن في كل مصري أصيل في ربوع المحروسة.
كيف لرجل لم يولد في النوبة، ولم يعش بين أبنائها، أن يُتقن هذا الفن إلى هذا الحد؟ ربما كان السر في تلك الزيارات المتكررة لخاله، أو في روح (علي الكسار) التي عرفت كيف تلتقط تفاصيل الشخصيات وتعيد رسمها على خشبة المسرح.
كان الناس يرونه في كل عرض مسرحي كأنه أحدهم، قريبًا منهم، يجلس بينهم، يتحدث بلغتهم، ويسخر من همومهم بطريقة عفوية تفجر الضحك.
(علي الكسار) لم يكن مجرد ممثل يؤدي أدوارًا مكتوبة، بل كان فنانًا يصنع الحياة على خشبة المسرح، كانت ضحكاته تشبه أغاني الصباح، خفيفة، مليئة بالأمل والتفاؤل الذي يخفف من حدة حياة المصريين البسطاء.
في زمن كان المصريون يبحثون فيه عن شيء يضحكهم، جاء (علي الكسار) ليملأ حياتهم بالبهجة والسعادة القدمة من قلب التراجيديا الإنسانية.
كان يدرك أن المسرح هو المكان الذي يجمع الجميع، الغني والفقير، المثقف والبسيط، ليضحكوا معًا على همومهم وأحلامهم.
وفي السينما، لم يكن (علي الكسار) أقل تألقًا، فمن أفلامه، تسلل إلى قلوب المشاهدين بشخصياته الطيبة البسيطة، في كل مرة ظهر فيها على الشاشة، كان يجسد نسيجًا من روح القاهرة ونبض أهلها.. شارك في نحو 37 فيلما أبرزها (سلفني 3 جنيه، وبواب العمارة) كانت انعكاسًا لذكاء فني نادر.
لحظة صدق مع الجمهور
كان يعرف كيف يجعل من أبسط المواقف اليومية كوميديا خالدة، تمس مشاعر الجمهور وتظل في ذاكرتهم على مر الأيام والسنين، لكن خلف هذا الضحك، كانت هناك شخصية عميقة، رجل عاش بين قسوة الحياة وبساطتها.
لم يكن (علي الكسار) يبحث عن الشهرة أو الأضواء بقدر ما كان يبحث عن لحظة صدق بينه وبين الجمهور.
ربما لهذا السبب بقى اسمه خالدًا، لأن الناس لم يروا فيه مجرد ممثل، بل رأوا فيه واحدًا منهم، يحمل نفس أحلامهم، ويعيش نفس همومهم.
في النهاية، كان (علي الكسار) أكثر من مجرد فنان.. كان جزءًا من روح مصر، رائدًا من رواد المسرح والسينما الذين صنعوا الضحكة وتركوا بصمتهم على وجوه المصريين.
وفي كل مرة نسمع فيها ضحكاته أو نشاهد أفلامه، نعود إلى ذلك الزمن الذي كان فيه الفن مرآة للناس، يعكس حياتهم ببساطة وجمال سيبقى (علي الكسار) في ذاكرة الأجيال، تلك الضحكة التي لا تغيب، وتلك الروح التي تنبض بالحياة في كل زمان ومكان.