بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في صمت عميق وأعين تتربص بكل شيء حولها، وُلد (زكي رستم) في (5 مارس 1903) بين جدران قصور عائلته الأرستقراطية.
عائلة الباشاوات، التي عرفت طريقها إلى السلطة والجاه، لم تتوقع أن أحد أبنائها سيختار دربًا مختلفًا، مليئًا بالتحديات الفنية والاجتماعية.
كانت طفولة (زكي رستم) تحت سماء الامتيازات، لكنه لم يكن يبحث عن المال أو السلطة التي أغرقت عائلته، بل كان يبحث عن ذاته في عالم آخر، بعيد عن الألقاب والقصور، سابحا في بحار الفن على جناح التمثيل.
رفض (زكي رستم) التقاليد الصارمة لعائلته، واتجه نحو الفن، تلك الخطوة التي جعلته منبوذًا في بيته، وتسببت في طرده وقطع صلته بعائلته الراقية، جراء عناده بالسير في طريق الفن.
لم يكن الأمر سهلاً، فقد ترك (زكي رستم) وراءه حياة مرفهة، وبدأ حياة جديدة في عزلة فنية وإنسانية، لكن هذه العزلة كانت اختياره، فهو لم يبحث عن الشهرة الاجتماعية أو العلاقات المزيفة، بل كان يبحث عن العمق الحقيقي الذي يستطيع أن ينقله للجمهور عبر أدواره.
كانت عيناه أشبه بعيني الصقر، قادرتين على نقل كل مشاعر الدور من دون الحاجة إلى كثير من الكلمات، بلغة جسد تمتع بالحيوية والتقمص في فن التمثيل الذي جعله محرابه في الحياة.
في فيلمه الأيقوني (الحرام) عندما لعب دور الناظر لم يكن مجرد ممثل ينقل حوارًا مكتوبًا، بل كان ينسج بروحه واقعًا شديد الصدق بمداد الإبداع في الأداء الاحترافي.
عاش حياة بسيطة
(زكي رستم) لم يكن بحاجة إلى التعبير المباشر؛ كل حركة، كل نظرة كانت تحكي عن آلام وتجارب حياتية عميقة تخاطب خيال الجمهور المتعطش لفنه الرفيع.
لقد جسد (زكي رستم) في فيلم (الحرام) ما يفوق التمثيل، فقد تحول إلى كائن ينهش في أعماق النفس البشرية، مستعينًا بخبرته الخاصة، التي صنعت منه نجمًا بارعًا في الأداء الصادق.
وعلى الرغم من شهرته التي جعلته في الصف الأول بين نجوم عصره، إلا أن (زكي رستم) لم يكن جزءًا من مجتمع الحفلات الصاخبة، ولم يكن من هؤلاء الذين يحرصون على الظهور الإعلامي.
انعزاله هذا فتح الباب أمام شائعات حول بخله وابتعاده عن الأضواء، لكن الحقيقة كانت أكثر عمقًا؛ فقد اختار (زكي رستم) الزهد عن طيب خاطر، لم يكن بخيلاً، بل زاهدًا في مظاهر الترف الفارغ، لقد عاش حياة بسيطة، رغم الأموال التي كان بإمكانه إنفاقها بوفرة، لكنه كان يرى أن الهدوء الداخلي والعزلة هما ملاذه الحقيقي.
ولد في قصر، لكنه اختار شقة متواضعة بعمارة يعوبيان ليعيش فيها.. لم يكن يسعى لإرضاء أحد أو للظهور بما يتناسب مع نجوميته الكبيرة.
حياته كانت مزيجًا من العمق والصفاء، رغم مرارتها، ورغم أنه طُرد من عائلته بسبب اختياره للفن، إلا أنه لم يندم يومًا، بل كانت تلك القطيعة هى التي مكنته من بناء شخصيته الفنية القوية، التي استمد منها قوته كممثل استطاع أن يمس قلوب الجماهير.
فيما يتعلق بحياته الشخصية، لطالما كان (زكي رستم) موضع تساؤل: لماذا لم يتزوج؟.. الإجابات تعددت، لكن الحقيقة بقيت مجهولة.
الفن هو الزوجة والأبناء
البعض يرى أن (زكي رستم) كان يخشى الارتباط العاطفي بعدما عاش تجربة الطرد من عائلته، ربما كان يخشى أن تعود القيود مجددًا، في وقت كان يبحث فيه عن الحرية المطلقة.
وربما كان الفن هو الزوجة والأبناء في نظره، فلم يكن بحاجة إلى أكثر من الشاشة كي يعبر عن ذاته.
(زكي رستم)، برغم كل ما عاشه من ألم ووحدة، لم يكن بحاجة إلى الألقاب أو الشهرة الاجتماعية.
كان يكفيه أن يحفر اسمه في ذاكرة السينما المصرية، ليس فقط كفنان عبقري، بل كرجل اختار أن يعيش وفق قناعاته، لقد أدار ظهره لحياة الباشاوات وأغلق قلبه أمام النساء، ليعتنق الفن كملاذ نهائي.
وفاته (15 فبراير 1972) كانت هادئة كما كانت حياته، لكنها تركت وراءها إرثًا من الأدوار التي لا تُنسى، ونجمًا من طراز فريد، عاش بصدق مع نفسه ومع جمهوره، ليصبح رمزًا للفنان الحر في عالم مُغلق على التقاليد والقيود التي كانت بمثابة سور حديدي، لم يقف حائلا تجاه إرادته في تحقيق حلم التمثيل.. رحمه الله رحمة واسعة.