بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
(جولة أخيرة)، ليس من الأعمال الدرامية التي تمنحك فقط التسلية، فشخصياته تفرض نفسها على عقل المشاهد ومشاعره بعد انتهاء المشاهدة لساعات وربما لأيام، والسبب أنها جميعها وبصرف النظر عن مساحات كل منها على الشاشة شخصيات مركبة بل ومعقدة.
والقضية بل القضايا التي يطرحها (جولة أخيرة)، سوداوية مظلمة جاءت عليها الدنيا ونال منها الزمن، إبتداءً من البطل الدكتور (يحيى الطبيب) الذي فرض عليه والده دراسة الطب وحارب حلمه في أن يكون بطل ملاكمة.
وكانت النتيجة أنه فشل في الطب وفشل في الزواج وفشل في الأبوة وخيبة أمل في كل شيء ولا منقذ له سوى العودة إلى حلمه القديم بطل مصارعة، وهو ما يقرره رغم كبره في السن وبشائر ألزهايمر التي هلت عليه وتأنيب ضميره له.
اعتقاداً أنه سبب في وفاة ملاكم آخر في آخر مبارياته قبل الاعتزال، حيث يقرر أن يخوض مباراة أخيرة في بطولة عالمية لأجل أن يستعيد حب ابنته له التي لم تعد ترى فيه سوى نموذج للأب الفاشل المستهتر العاجز.
ومثلما أن حياة يحيى أو كما ينادونه (شجيع/ أحمد السقا) مليئة بالمنحدرات، فكذلك حياة مدربه الكوتش (تامبي/ أشرف عبدالباقي) ووالده الطبيب الذي أفقده ألزهايمر عقله وذاكرته وتاريخه، و(شبكة/ علي صبحي) الذي كان السبب وراء عودة شجيع لحلبة المصارعة، و(علياء) زوجة اللاعب الذي مات عقب مباراة بينه وبين شجيع.
مسلسل (جولة أخيرة) لا يعالج قضية واحدة بل عدة قضايا، وهو ما يعكس ثراءً درامياً في المحتوى متعدد الأهداف، رغم أن أحداثه تدور في فلك تصاعدي واحد ولا تنحرف خارجه ولا تسمح للمشاهد أن يتوه أو يهرب منه الخط الدرامي.
قد يعتبر البعض أن العنوان العريض للأحداث هو تأثير ضياع الحلم على حياة الإنسان من وحي حكاية (شجيع)، ولكن هذا ليس صحيحاً، فجميع الأبطال يبحثون عن استقامة الحياة ولا يتلقون من الدنيا سوى اعوجاجها.
ولعل المشترك بين حكاية كل من (شجيع وتامبي وشبكة وعلياء) هو العلاقة بين الآباء والأبناء، فهي إما مضطربة مثل علاقة (شجيع) ووالده الذي فرض عليه حياة لا تتناسب وطموحاته.
تائه بين حلم ضائع وواقع مأزوم
أو في علاقته بإبنته بعد أن تشوهت صورته عندها وأصبح في نظرها الأب العاجز عن تحقيق ذاته وعن تحمل مسؤولياته، والتائه بين حلم ضائع وواقع مأزوم، وإما أنها علاقة مفقودة مثل (تامبي) وابنه الذي تركه منذ سنوات ولا يعرف شيئاً عنه.
وقرر أن يغيّب عقله ويعيش بين المخدرات والخمور، و(شبكة) الذي جاء إلى الدنيا لا يعرف له أباً ووجد نفسه ابناً لثلاث نساءٍ امتهن الدعارة وحملت إحداهن به فقررن أن يكن كلهن أمهات له.
يطارده ماضٍ ليس له ذنب فيه ويتطلع لمستقبل بلا عار فيرسل أمهاته الثلاث للحج، كما يغير مكان السكن ليقطع علاقتهم بالماضي، ولكنه يفشل، و(علياء) الأم لابنة مات أبوها ولا تجد أمامها طريق لإعالتها وتعليمها سوى الدعارة.
وفي نفس الوقت يتعرض المسلسل لعالم الملاكمة (الأندر جراوند) والمراهنات فيها، ولكنه لم ينجح في تقديم صورة كاملة عن هذا العالم، وهى ليست المرة الأولى التي تدخل فيها كاميرا الدراما عالم حلبات الملاكمة، ولكنها المرة الأولى التي يتم دخول هذا العالم من خلال حكاية مكتوبة بحرفية أجادها (أحمد ندا ومحمد الخشيبي).
حكاية إنسانية، مؤلمة وممتعة، تتعاطف خلالها مع جميع أبطالها وتتمنى لو كنت قريباً منهم وتستطيع أن تساعدهم في حل عقدهم وأزماتهم، والحكاية أخرجتها (مريم أحمدي) التي تمنحك الاحساس أنك تشاهد مسلسلاً أمريكياً في كادراته وإضاءته وأداء أبطاله والصمت الذي يغلب على بعض المشاهد.
وبصرف النظر عن الأخطاء البسيطة التي وقعت فيها فإنها قدمت عملاً يستحق المشاهدة وفتحت به باباً للدراما المصرية على منصة أمازون العالمية.
الفنان قد يتعرض لعثرات في حياته، ولكن موهبته لا تموت طالما وجد النص الجيد والمخرج الذي يعيد تشكيل موهبته من جديد، و(جولة أخيرة)، أعاد إحياء (أحمد السقا)، وأعاد اكتشاف (أشرف عبدالباقي)، وأكد موهبة (رشدي الشامي) وكشف عن قدرات جديدة لدى (علي صبحي).
(أحمد السقا) يستعيد مكانته
(أحمد السقا) اعتبره الكثير من النقاد والجمهور انتهى بعد (إبراهيم الأبيض)، ومنذ ذلك الوقت سحب كل عمل شارك فيه من رصيده الكثير، حتى جاءه مسلسل (جولة أخيرة) ليستعيد فيه مكانه ومكانته، جسد معاناة وتيه وضياع (يحيى) بشكل جيد وإن كان لا يزال يحتاج إلى بعض الجهد لمزيد من التحكم في لغة الجسد.
(أشرف عبدالباقي)، نجم المسلسل الحقيقي والمستفيد الأكبر منه، اكتشاف جديد، موهبة ظلمها المخرجون وظلمت نفسها بالقبول بقضاء عمره في منطقة الكوميديا التي تنقلب أحياناً إلى تهريج واستخفاف.
ولم يشأ أحد أن يكتشف فيه الممثل الجبار الذي أمتعنا وآلمنا في (جولة أخيرة)، جسد شخصية الكوتش الهارب من الحياة إلى غرفة في فندق متواضع يستأنس فيه بالناس حتى لا تقتله الوحدة، ورغم ذلك كانت رفيقته الخمرة والسيجارة وصور ابنه المفقود وذكريات صناعته لأبطال في الملاكمة.
(علي صبحي) أيضاً موهبة كبيرة تجيد التمثيل بالصمت والتنقل السريع بين وجهي الخير المبتغى والشر الذي فرضته عليه ظروف حياته.
الطفلة (ملك فهمي) في دور ابنة شجيع، نجحت في الكشف عن نفسها كموهبة قادمة تجيد التعبير بملامح الوجه والعينين ولغة الجسد.
الثلاثي ( صفاء الطوخي وحنان سليمان والعائدة بعد غياب سحر رامي)، تركت كل منهن بصمتها رغم صغر أدوارهن.
(أسماء أبو اليزيد)، أوجعت قلوب محبيها في شخصية (علياء) الأرملة التي وضعتها وفاة زوجها ومسؤولياتها تجاه ابنتها في طريق الليل والضياع.
(حنان مطاوع) تركت من خلال دور (مطلقة يحيى المعدود) المشاهد تأثيراً كبيراً يتناسب وحجم موهبتها كممثلة كبيرة تهتم بتفاصيل الدور بصرف النظر عن مساحته.
mahmoudhassouna2020@gmail.com