بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
تخيل أن تسقط على عينك أشعة ضوء تتراقص فيها مشاهد الحياة، لكن ليست هي الحياة التي تعرفها، إنها حياة أعمق، تتغلغل في قلبك مثل سحابة من أحاسيس، تتلون بالفرح والحزن، وتتراقص على نغمات المشهد في ظل (أمجاد الشاشة).
هكذا كانت السينما المصرية منذ ولادتها، مثل ساحر قديم ينثر تعاويذه في الهواء، فيُبهر الجميع بما لا يُرى.
في تلك الليالي البعيدة، لم تكن الشوارع تعرف هدوءًا، ولكن كانت هناك لحظات سحرية، بين الأزقة والمقاهي، حينما كان الناس يتسربون إلى قاعات السينما، أولئك الذين عاشوا بدايات السينما المصرية لم يدركوا أنهم يشهدون ميلاد شيء سيغير كل شيء.
لم يكن الأمر مجرد لقطات، بل كانت السينما تقدم (أمجاد الشاشة)، حيث كانت تلك الأرواح التي تُبث على الشاشة جزءًا من عالم خفي، عالم ينقلنا من زحمة الحياة إلى أحضان الخيال.
عزيزة أمير
حينما وضعت الرائدة السينمائية (عزيزة أمير) قدمها على أرض الإبداع، كانت تعرف أنها تفتح بابًا لـ (أمجاد الشاشة) لن يغلق، فيلمها (ليلى) كان المفتاح، صوت الحكايات التي لم تُروَ بعد.
لم تكن (ليلى) مجرد فيلم صامت، بل كانت مرآة للروح المصرية العتيقة، التي تسعى دائمًا إلى التعبير عن ذاتها، حتى وإن لم يكن هناك من يسمع (أمجاد الشاشة).
وتلك المرآة كانت أول تعبير عن رحلة ممتدة لعقود، حيث الكاميرا لم تعد مجرد أداة، بل أصبحت ناطقة باسم القلوب الصامتة.
يوسف وهبي
يوسف وهبي، ذاك المبدع الذي كانت عيناه ترى ما لا يراه الآخرون، حمل كاميرته كمن يحمل فرشاة رسام، وأنتج فيلم (زينب)، و(زينب) لم يكن مجرد فيلم، بل كان لوحة تضج بالحياة في ظل (أمجاد الشاشة).
حيث كانت الشخصيات تتحرك، وكأنها تخرج من عوالم الأحلام، ويوسف هبي لم يكن فقط مخرجًا، بل كان نحاتًا يُشكل العالم من حوله، وكان يرى في كل شخصية نبضًا إنسانيًا، ينبض بالحياة والأمل.
وبينما تمضي السنوات، كانت السينما المصرية تتحول إلى بستان من المشاعر، حيث كانت الألوان تتداخل وتتشابك مع الأضواء، فتخلق عوالم جديدة.
فاتن حمامة
فاتن حمامة، تلك الزهرة التي كانت تُزهر على الشاشة، كانت تجسيدًا للرقة، لدموع الحب وآلامه، لأفراح الحياة وأوجاعها، كانت تظهر على (أمجاد الشاشة) لتُحدث تغييرًا في الروح، وكأن المشاهدين كانوا يرون جزءًا من ذواتهم في عينيها.
أما السينما في زمن (نجيب الريحاني، وإسماعيل ياسين)، فكانت ساحة للضحك العذب، حيث كانت الضحكات تنفجر كفقاعات صابون، تملأ الأجواء بالخفة والبهجة.
هؤلاء السحرة صنعوا عالماً من الفرح وسط زحام الحياة وصعوباتها، كانت أفلامهم كمسكنات مؤقتة، تجعل الحياة تبدو أخف، ولو للحظات على طريق (أمجاد الشاشة).
صلاح أبوسيف، ويوسف شاهين
لكن هذا السحر لم يكن خاليًا من عمق، في ظل الضحك والدموع، كانت السينما تتعامل مع القضايا الكبرى التي تؤرق المجتمع، ها هو المخرج (صلاح أبو سيف)، بحساسية المبدع الواقعي، نسج أفلامًا تقتلع جذور التناقضات من قلب المجتمع وتعرضها بلا تجميل لترسخ كـ (أمجاد الشاشة).
أفلامه لم تكن تروى قصصًا وحسب، بل كانت تكشف عن حقيقة عارية، تضع المشاهد أمام نفسه دون زيف أو تحايل.
ثم جاء (يوسف شاهين)، المبدع الذي لم يكن يخشى الغوص في أعماق النفس البشرية، شاهين كان يُصوّر الإنسان في صراعه الأبدي مع ذاته ومع العالم من حوله.
كان يُسائل الزمن والتاريخ والهوية بأسئلة حادة، تُبقي المشاهد في حالة من التساؤل الدائم، أفلامه كانت تسير على خيط رفيع بين الحقيقة والخيال، تجذب الروح وتأخذها إلى عوالم لم تُكتشف بعد.
تلك الأيام كانت أيام السحر، حيث كانت السينما المصرية تتألق كنجم بعيد في سماء الفنون، ومع كل تغير سياسي أو اجتماعي، كانت السينما تُعيد تشكيل نفسها، تمتص من الواقع لتخلق عوالم موازية، لا تنفصل عن الإنسان، بل تنصهر معه.
السينما والروح المصرية
السينما المصرية، بكل ما تحمله من جمال وتناقضات في إطار (أمجاد الشاشة)، كانت دائمًا وما زالت تعبيرًا عن الروح المصرية، تلك الروح التي تتحدى الزمان والمكان لتجد مكانها في تاريخ الفن الإنساني.
اليوم، ونحن نشاهد الأفلام الحديثة بتقنياتها المتطورة، لا يزال هناك سحر خاص في تلك الأفلام القديمة في لوحة (أمجاد الشاشة)، تلك التي حملت قلوبنا عبر الزمن، حيث كان النور والظل يرقصان معًا في تناغم.
السينما المصرية ليست مجرد ذكريات على شريط قديم، بل هي روح حية، تستمر في بث الحياة في قلوب محبيها.
وهكذا، يبقى سحر السينما المصرية، سحرًا خالدًا، لا يخفت بمرور الزمن، بل يزداد تألقًا، كأن كل فيلم جديد يُعيد إحياء تعاويذ سحرية قديمة.