بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
مسلسل (عمر أفندي)، حالة فنية خاصة انعكست على الجمهور بحالة وجدانية خاصة تجاهه وتجاه كل من شارك في صناعته، زفة من الحب للمسلسل شارك فيها مشاهدوه بصرف النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو العلمية أو السياسية.
زفة استخدمت فيها كل الآلات والنغمات الموسيقية لتحدث حالة من البهجة، بهجة بالموضوع، بزمن الأربعينات، بالديكور والملابس وملامح الشخصيات وكلامهم وأدبهم وهدوءهم و(روقانهم).
بهجة بما فيه من كوميديا غير مفتعلة تُضحك ولا تزعج، بهجة بالتمثيل والكتابة والإخراج والتصوير وبكل العناصر الإبداعية التي تضافرت برؤية مخرج موهوب لم يكن معروفاً قبل أسابيع.
واليوم بعد مسلسل (عمر أفندي) أصبح اسم (عبدالرحمن أبو غزالة) ملء السمع، أعلن عن ميلاده الفني وسط الزفة وحجز لنفسه مكاناً مهماً على خريطة الفن، ومؤلف متمرد على التقليدية الإبداعية هو (مصطفى حمدي)، متمكن من أدواته، باحث جيد في التاريخ، صاحب روح كتابية كوميدية ساخرة.
يعشق أيام زمان ويتمنى أن يتخلى الحاضر عن الضغوط التي يمارسها على البشر ويجعل منهم كائنات عدوانية، وكأن كل إنسان يتربص للآخر خوفاً منه وليس رغبة في ايذائه، وهو ما يؤذي الجميع في النهاية.
النجاح يجعل صاحبه نجماً ساطعاً، يشع نوراً ويضيء على من حوله، وهذا هو ما حققه مسلسل (عمر أفندي)، نجح فكان حديث الناس، ونجح فأضاء على مخرجه ومؤلف ونقل أبطاله إلى مكان آخر، كانوا معروفين ولكنهم أصبحوا نجوماً.
(أحمد حاتم) أحبه الناس في (علي) ابن زماننا المقهور من زوجته ووالدها وظروفه، والذي اقتاده سرداب في منزل والده المتوفي إلى العودة للعام 1943، وهناك خاف أن يعلن عن حقيقته ليدعي أنه عمر أفندي ابن ذاك الزمان، والذي أحببنا أحمد حاتم فيه أيضاً.
حياة مختلفة تماماً
وهناك يلتقي (زينات/ آية سماحة)، ووالدتها (دلال/ رانيا يوسف)، والبوسطجي (دياسطي/ مصطفى أبو سريع)، واليهودي (شلهوب/ محمد رضوان)، والبلطجي (أباظة/ محمود حافظ)، والقواد (لمعي النجس/ محمد عبدالعظيم).
حياة مختلفة تماماً، هدوء وراحة بال وشوارع نظيفة وغير مزدحمة، حياة خالية من التلوث السمعي والبصري والضجيج والفوضى، مصر محتلة من الإنجليز، ومقسمة ما بين مؤيدين إجبارياً للإنجليز في الحرب العالمية الثانية، ومؤيدين اختيارياً للألمان، ليس حباً فيهم ولا إعجاباً بهتل، ولكن تطبيقا لمبدأ (عدو عدوي صديقي).
حياة أحبها المشاهد رغم أن فيها اليهودي والقواد وبيت الدعارة والكباريهات والبلطجة، وهى أمور كانت عادية في ذاك الوقت، المهم أن الشر فيه لا يتخفى وراء الخير ولا يرتدي أقنعة الدين ولا الطيبة ولا الخلق الحسن.
تعرفه عند أول لقاء بل وفي أول دقائق، لا تحتاج إلى جهد حتى تكتشفه وهو ليس مضطراً لخداعك، وكذلك الخير تعرفه بسهولة وهو لا يتلون ولا تنال منه الظروف والهموم والمشاكل، فطري ثابت راسخ لا تزحزحه العواصف من مكانه.
الفنانون الذين جسدوا الشر برعوا فيه (محمد رضوان ومحمد عبدالعظيم ومحمود حافظ) الذي يؤخذ عليه الصراخ والصوت العالي في معظم المواقف، والفنانون الذين جسدوا أدوار الخير حلقوا خلاله إلى آفاق السمو القيمي وعبروا عن قوة شخصياتهم بالصوت والوجه ولغة الجسد.
وكما ذكرت فإن (آية سماحة) في (زينات) أدمنها الناس بنفس درجة إدمانهم لشخصية (عمر أفندي)، وهذا المسلسل سيكون نقطة تحول في مسيرة كليهما الفنية، (مصطفى أبو سريع) في (دياسطي) حكاية ثانية خالص.
فقد كشف عن موهبة صلبة تجيد التلوين، وتتجول براحة بالغة بين الكوميديا والتراجيديا، وشتان بين أدائه وشخصيته في هذا المسلسل وفي المسلسل الذي عرض له في رمضان (العتاولة)، لنكتشف أننا أمام ممثل حقيقي سينال حقه في المستقبل القريب جداً.
التفاف الناس حول هذا مسلسل (عمر أفندي) ليس وراءه سر واحد ولكن مجموعة أسرار، فبجانب الحرفية في الإخراج والكتابة والتألق في التمثيل والإجادة في الديكور والملابس.
الضجيج الذي يلوث حياتنا
هناك الأجواء التي يقرأ عنها المشاهد في الكتب ويراها في الأفلام القديمة ويسمع عنها من كبار السن ويتمنى أن يعيشها خصوصاً في ظل الغلاء الذي نعيشه والضجيج الذي يلوث شخصياتنا وحياتنا.
وقد حقق له (عمر أفندي)، أخذه معه من الزمن الآني ليعود به 81 عاماً إلى الوراء، فانتازيا لا علاقة لها بالواقع، ولكنها عزف على موجة الحنين الطاغية للماضي بعد التشوهات الحياتية والقيمية والاقتصادية والسياسية التي أصابت الحاضر.
السؤال: هل يصلح أن نذهب مع (عمر أفندي) لنعيش في الماضي، ويبحث كل من يعاني مع زوجته عن مثيلات (زينات)، ويعيش من يملك جنيه ملك زمانه؟.
الجواب: الزمن لا يعود للوراء، ولذا لا يصلح أن نذهب للماضي سوى بخيالنا أو عبر صفحات كتب التاريخ أو الروايات التاريخية، أو عبر السباحة في مذكرات أي من رموز الماضي، وغير ذلك لا يصلح.
كل ما نستطيعه هو أن نتعلم ونعلم ذوينا دروسه، علنا نستطيع أن نتجنب خطاياه في الحاضر، وإن كانت التجارب قد أثبتت عكس ذلك.