بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
بغض النظر عن الآراء السلبية التي وردت على لسان البعض في نقد مسلسل (عمر أفندي)، إلا أنني أرى أنه يكفيه صنع حالة من الشجن، وذلك من خلال (النوستالجيا)، عبر كلمات قليلة لكنها عميقة تثير الشجون والذكريات، استطاع فيها كاتب المسلسل (مصطفى حمدي) التعبير بحرفية وصدق عن حنينه إلى الماضي.
ولاشك أن مسلسل (عمر أفندي) وجد كثير من أصداء القبول والامتنان لمؤلفة ومخرجه وممثليه، من جانب الجمهور الذي تعلق به طوال (15) حلقة، مرت كطيف جميل، ونجح في إثارة النفوس بمشاعر مختلطة ما بين السعادة والألم والشجون والحزن وأحيانا الندم.
وظني أن أحدث مسلسل (عمر أفندي) استعادت حنينا إلى أنفسنا بالأساس: شكلنا وملامحنا وأعمارنا وأحلامنا التي طوتها دفاتر الأيام، ومن جهة أخرى قد تكون انعكاسا للخوف من سرعة مرور الأيام والأحداث، أو رغبة في العودة إلى هذه الأزمان والأماكن والمراحل فنعيشها كما يجب أن تكون.
الشعور بالحنين للماضي
لقد جعلنا مسلسل (عمر أفندي) نشعر بالحنين لأماكن لم نزرها وظروف لم نعشها، ربما شاهدناها في فيلم قديم، أو عايشناها من خلال سماع أغنية طويلة، أو رواية طويلة جسدت آمالنا وأحلامنا، كما عبر عنها (كارسون مكولارس) بقوله: (يمتلك البعض الكثير من الحنين للأماكن التي لا يعرفونها مطلقا).
إلا أن الحنين إلى الماضي له أساس سيكولوجي – بحسب علماء النفس – يطلق عليه مصطلح (النوستولجيا)، والنوستالجيا تعني (الحنين إلى ماضي مثالي)، والذي ابتكره طالب الطب (يوهانس هوفر)، بعد أن لاحظ أن مجموعة من العمال المأجورين السويسريين المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض مرضية مشتركة.
مثل: (أرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر هضم، وتبين فيما بعد أن من أهم أسبابها الشوق والحنين إلى أوطانهم، ويشير علماء النفس أن – النولستوجيا – هى آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة.
الحنين مهم للصحة النفسية
كما أن الحنين للماضي بحسب أحداث (عمر أفندي) أراه كمشاهد: مهم للصحة العقلية والنفسية، وله فوائد جسدية وعاطفية؛ فهو أسلوب ناجح في محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي، وقد أثبت العلم الحديث الشعور النوستالجي باستخدام صورة الرنين المغناطيسي للدماغ.
كما أثبت مسلسل (عمر أفندي) أن الحنين إلى الماضي بتفاصيله شيء جميل، بل إنه أمدنا بسعادة وراحة نفسية من خلال أحداث بسيطة تتسم بالدفء الإنساني في زمن الأربعينات بعبقه وأريجه الفتان.
يقول (برترناد راسل) في كتابه (الفوز بالسعادة): (السعادة ليست هروبا من الواقع ومآسيه إنما التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا، والسعادة هى في الحياة الواقعية لأن الإفراط في التفكير بمستقبلنا يهدم لذة الاستمتاع بحاضرنا).
ونحن ربما لسمنا في مسلسل (عمر أفندي) هذا الانجذاب الفوري بسبب حبكة العمل الفانتازية التي تناولت فكرة السفر عبر الزمن وتحديدا العودة للماضي، ومن ثم جاء بأجواء مختلفة تجمع بين خفة الظل والأحداث غير المتوقعة، الأمر الذي صنع الإثارة والتشويق.
تدور أحداث مسلسل (عمر أفندي) بين حقبتين زمنيتين، الأولى معاصرة تعكس عالمنا السريع القاسي والبغيض أحيانا، والثانية بالماضي البعيد حيث الاحتلال الإنجليزي لمصر في حقبة الأربعينيات وزمن قصص الحب الأفلاطونية، والحياة ذات الإيقاع البطيء المتزن، من خلال أحداث لها رونق خاص وجذاب.
بطل قصة مسلسل (عمر أفندي) هو (علي أو عمر/ أحمد حاتم)، وهو عبارة عن أب وزوج لفتاة شديدة الثراء، أحبها فاضطر للعمل مع والدها وإمضاء شيكات لإثبات عدم طمعه بأموالها، ورغم مساهماته لإنجاح شركتهم يراه والد زوجته وصوليا بدرجة أقل اجتماعيا ويسيء معاملته.
وتبدو غرابة القصة في أن (تهامي/ محسن صبري) والد (علي) كان يرفض زواج ابنه من فتاة ثرية، اعتقادا منه أنه زاواج محكوم عليه بالفشل لعدم التكافؤ، وأمام إصرار ابنه يقاطع كل منهما الآخر لسنوات.
سرداب يقوده إلى الماضي
لكن عقب فور وفاة والد البطل، كل شيء ينقلب رأسا على عقب، حيث يكتشف (علي) سردابا أسفل منزل أبيه يقوده إلى العودة إلى الماضي وتحديدا عام 1943، وهناك يتعرف إلى (زينات/ آية سماحة) الفنانة الاستعراضية وأمها (دلال/ رانيا يوسف) الراقصة المعتزلة زوجة أبيه.
وفي خضم الأحداث يتعرف (علي) بعد تغيير اسمه إلى (عمر أفندي) يتعرف على (دياسطي/ مصطفى أبو سريع) البوسطجي الذي يحلم أن يكون فدائيا، و(شلهوب/ محمد رضوان) اليهودي البخيل الذي يخشى الألمان ويحاول التخفّى منهم.
إضافة إلى شخصيات أخرى مثل (أباظة/ محمود حافظ) صاحب المهلى الليلي الذي تعمل فيه (زينات)، فضلا عن (لمعي النجس/ محمد عبد العظيم) الذي يدير بيتا للدعارة المرخصة آنذاك.
لأسباب حسية وحميمية يسحر هذا العالم (علي)، أو (عمر أفندي) خاصة أنه يتيح له اكتشاف جوانب خفية عن والده وأن ينهل من فنون مختلفة، ومن ثم يتنقل بين العالمين محاولا الاستفادة من الاختراعات الحديثة والأغنيات وأخبار الصحف القديمة لتطويع الأمور لصالحه، وهو ما يجري بطريقة ساخرة.
ومثلما وقع (عمر أفندي) بحب زمن الأربعينيات، فعل المشاهدون الذين أكدوا افتقادهم مظاهر الحياة بعيدا عن التكنولوجيا واعتكاف البشر خلف شاشات هواتفهم، راغبين في العودة إلى عصور اعتاد قاطنوها عيش حياة ذات تفاصيل متشابهة وواقع واحد بسيط دون فروقات شاسعة في أسلوب الحياة.
ومن العوامل المهمة التي ساهمت في تعميق تلك الحالة تأتي على جناح جاذبية الديكور شديد الدقة والحساسية لأحمد جمال، والأزياء والإكسسوارات التي عبرت بمصداقية عن هيئة رواد تلك الحقبة، إضافة إلى تغليف كل ذلك بمفردات قديمة مميزة.
ومنها على سبيل المثال كلمات مثل (باشا) و(بك) و(أفندي) و(حاجة 13)، التي سرعان ما تداولها الجمهور تعبيرا عن إعجابهم بالمسلسل، ومن ثم جعلت المشاهد يشعر كأنه يرتدي بدلة رمادية وعليها (طربوش) أحمر، والسيدة كأنها ترتدي فستان لونه وردي أو أسود، ويسيران في شوارع نظيفة.
فضلا عن وذاك كانت هنالك أجواء هادئة تتسم بالرومانسية العذبة، حيث يسمعون موسيقى أم كلثوم أو عبدالحليم، أو يدخلون مسرح نجيب الريحاني، وغيرها من التفاصيل التي ترتبط بالحقبة الزمنية قبل الألفينيات مثل الأربعينيات.
ومع أن المسلسل هو التجربة الإخراجية الأولى للشاب (عبد الرحمن أبو غزالة)، إلا أنه نجح بتأكيد امتلاكه أدوات مرهفة وميزان منضبط أحسن عبره توظيف كتابة مصطفى حمدي) التي تضمنت جرعة من الكوميديا تغلفها التراجيديا دون ابتذال أو استسهال.
أحمد حاتم أجاد في أدائه
وممن أجادوا في مسلسل (عمر أفندي) يأتي على رأسهم (أحمد حاتم) الذي جسد شخصيتي (على وعمر) بعذوبة أراها تعكس موهبة كبيرة في أداء الكوميدي الناعم بنكهة رومانسية رائقة.
ولعل أداء الممثلة الشابة (آية سماحة) في دور (زينات) كان بديعا على مستوى لغة الجسد وطريقة الإلقاء التي تعكس طبيعة زمن الأربعينات برونقها الجميل وسحر أجوائه الرائعة.
وظني أن الممثل (مصطفى أبو سريع) الذي لعب دور (دياسطي) هو فاكهة هذا المسلسل، حيث نجح في كل مشاهده في جذب الجمهور، ليثبت بهدوء وروية نجاحا في الفعل الكوميدي الذي يفجر الضحك من قلب أعقد المواقف التراجيدية.
وأكثر ما أعجبني في مسلسل (عمر أفندي) على مستوى الأداء الاحترافي هو الفنان القدير (محمد رضوان) في دور (اليهودي) الذي قدمه بعيدا عن نمطية شخصية اليهودي المتجهم، حيث أضاف بعدا كوميديا يؤكد قدرته على التجسيد الحي دون أدني افتعال، بل بعذوبة وسلاسة منقطعة النظير.
على الرغم من أن البعض رأي أن (محمود حافظ) في شخصية (أباظة) تكرار لأدوار سايقة، لكني أراه ممثلا من العيار الثقيل على مستوى التكنيك والتقمص بطريقة تجبرك على أن تنفر من الشخصية، وهذا ما يسمى بالصدق الفني.
أما (محمد عبد العظيم) في دور (لمعي النجس) فقد تعامل مع الشخصية بميزان حساس جدا يعكس قدرته على الأداء الكوميدي العذب والتلون كحرباء قادرة على اجتياز الصعب في مناطق كثيرة جعلته يبدو عملاقا في التمثيل الحقيقي دون زيف أو تملق، وكأنه يعيد أمجاد العظام في الزمن الجميل.
كما أثبت مسلسل (عمر أفندي) أن الفنان الشاب (أحمد سلطان) يحمل طاقة كوميدية عظيمة جدا تجتاح إلى من يفجرها، ومن هنا ألفت النظر إلى هذا الممثل الواعد، والذي يمكن أن ينضم إلى كتيبة الكوميدينات الجدد.
ومع جودة هؤلاء جميعا إلا أنني أري أن أداء (رانيا يوسف) رتيبا، بل إنها تبدو بليدة في التعاطي مع طاقة الممثلين (الشباب والكبار) على حد سواء، فضلا عن استهتار واضح جدا من جانب (إسماعيل فرغلي)، الذي بدا منفعلا طوال الوقت رغم هدوء ونعومة أحداث المسلسل، ولست أدري من أسند لـ (ميران) عبد الوارث هذا الدور، فتلك ممثلة لا تملك أية أدوات للتمثيل.
على أية حال فإنني شخصيا استمتعت بمسلسل (عمر أفندي) الذي نجح في صنع حالة من الحنين إلى الماضي، جالبا لنا لحظات من البهجة والسعادة، وأظن أن الحال سيستمر في الجزء الثاني الذي يبدو واضحا من نهاية الحلقة الأخيرة.