(الدكتور شديد).. أحد النماذج المظلومة في السينما المصرية!
كتب: محمد حبوشة
إن على الممثل وفقا لمنهج (ستاسنلافسكى) أن يؤلف فى ضوء ما لديه من معطيات سيرة كاملة للشخصية التى يؤديها، وأن يجعل فى ذهنه صورة حسية دقيقة لسائر ظروفها المرتبطة بما يجرى على المسرح أو الشاشة، وهذا ما آمن به الفنان الراحل (محمد فرحات عمر)، الذي عرف باسم (الدكتورشديد).
كان (الدكتور شديد) – رحمة الله عليه – رغم أدواره الثانوية في المسرح والسينما يبحث عن لحظة الإبداع والإمساك بها متى وجدها، مهمها تكون صغيرة وفى أى وقت، حتى لو كانت قبل انزال الستار بثوان أو وقوفه أمام كاميرا السينما قبل الدوران، وهو ما كان يستوجب منه لحظات إبداع كثيرة.
لقد آمن (الدكتور شديد) أن أنك قد تؤدى دورك أداء جيدا، وقد تؤديه أداءا رديئا، ولكن المهم أن تؤديه أداء صادقا ؛ ومعنى أن تؤديه أداء صادقا أن تؤديه أداء صحيحا، ومنتظما، ومتماسكا، وأن يكون تفكيرك وجهدك وشعورك وتمثيلك متقنا والدور الذى تؤديه.
وهو ما يسمى بالحياة فى الدور، وليس مهمة الفنان (الدكتور شديد) هنا أن يعرض الحياة الخارجية للشخصية التى يؤديها، بل لابد أن يلائم بين حياته الإنسانية وحياة ذلك الشخص الآخر، قبل أن يظهر على خشبة المسرح أو شاشة السينما.
كان (الدكتور شديد) دائما يتخيل بطريقته الخاصة الظروف المعطاة له من المسرحية أو الفيلم وخطة الإخراج وتصوره الفنى الخاص للرواية، وهذه المواد كانت تمده بتخطيط عام لحياة الشخصية التى عليه أن يؤديها.
وهذا النقطة مهمة جدا لدى (الدكتور شديد)، خاصة أنه كان مؤمنا حقيقة بحياة هذه الشخصية، ثم يعتاد عليها حتى تشعر أنك وثيق الصلة بها، وإذا نجح فى ذلك سوف تجد الانفعالات الصادقة أو ما يسمى بالمشاعر التى تبدو صادقة تلقائيا، من خلال موهبته الفطرية.
عين الممثل (الدكتور شديد)
إن عين الممثل (الدكتور شديد) كانت تنظر إلى الشيئ وتراه جاذبا لانتباه المشاهد، ويستطيع بذلك أن تكون بالنسبة له علامة تحدد للمتفرج ما ينبغى أن يراه وما يسعى إليه الممثل، أما العين الفارغة فعلى العكس تماما من ذلك فهى تشتت الانتباه المتفرج وتصرفه عن خشبة المسرح أو الشاشة، فلابد أن يكون الممثل فطنا يقظا.
يعتمد (الدكتور شديد) منهج ضبط النفس، ولذا فإن الممثل عنده يشعر وهو واقف أمام الجمهور تحت الأضواء بأنه ملزم سواء أراد أو لم يرد، بأن يبذل قدرا لاداعى له من الجهد والحركات التى يفترض أنها تعبر عن مشاعره.
(الدكتور شديد)، كان من الأشخاص الذين يتمتعون بموهبة التمثيل بالفطرة، وكثيرا ما لعب دور المظلوم، ولهذا تجد عنده متعة بتكسير القلوب في قالب كوميدي يتسم بالفكاهة اللذيذة.
اسمه الحقيقي هو (محمد فرحات عمر)، وهو من مواليد 12 أغسطس عام 1931 بحي العباسية، وتخرج الدكتور شديد من جامعة القاهرة، وحصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة، ومن ثم قرر (الدكتور شديد) استكمال دراسته في الفلسفة التي كانت من أحب الدراسات إلى قلبه.
وبالفعل حصل على شهادة الماجستير ومن ثم شهادة الدكتوراه، وعمل كمدرس لفترة معينة، ولكن كان حبه للفن يجري في دمه وفي رأسه، مما جعله يترك مهنته وينتقل للعمل في المسرح، وأصبح شديد واحد من أهم وأشهر نجوم الكوميديا.
على الرغم من حبه للعلم والتعلم، إلا أن الفن والتمثيل كانا الملاذ الأول والأخير، فكان (الدكتور شديد) يحاول الالتحاق بأي شيء يتعلق بالسينما، وحتى قبل حصوله على الشهادة الجامعية، ولكن كان دائما صديقه الفنان (حسين رياض) ينصحه بإتمام دراسته قبل أن يلتحق بالعمل في السينما.
ومن بعدها التحق بمعهد التمثيل حتى قبل حصوله على الدكتوراه، وقام بتقديم مسرحية (30 يوم في السجن) على مسرح نجيب الريحاني، وتمكن من الحصول على كأس (يوسف بك وهبي) كأفضل ممثل على مستوى مسرح الجامعات المصرية.
وظل يبحث عن فرصة حقيقية تجعله يحصل على أدوار هامة تمكنه من إثبات موهبته الكبيرة، وبعد طريق طويل تمكن من الحصول على دور (الدكتور شديد)، من خلال المسلسل الإذاعي (ساعة لقلبك)، والذي يذاع في الراديو حتى وقتنا هذا، فهو من كلاسيكيات الإذاعة المصرية.
لقب (فيلسوف الفن)
على الرغم من حجم موهبته الفنية التي أشاد بها كل من عمل معه سواء أمام الكاميرا أو ورائها، إلا أن (الدكتور شديد) كان من الممثلين الذين لم يحظوا بالفرص التي يستحقونها.
فبعد ما يزيد عن عشرين عاما في مجال الفن والسينما، وحتى حصوله على لقب (فيلسوف الفن) إلا أنه لم يحظ بدور البطولة ولو لمرة واحدة، كان (الدكتور شديد) دائما في الدور الثاني أو في دور السنيد الذي يأتي وراء البطل.
ولكن كان (الدكتور شديد) يتمتع بذكاء فني خاص به، فكانت عباراته الكوميدية هي التي تعلق مع الناس والجماهير من أفلامه، فمن منا لا يعرف عبارة (وماله يا أخويا) أو عبارة (يا رب يا أخويا)، حتى أنه جعلنا نقرأها بصوته المميز.
وبعد مرور الزمن أثبت (الدكتور شديد) أن البطولة ليست مهمة على قدر إثبات الموهبة بهذا القدر من الدهاء.
كانت موهبة (الدكتور شديد) موهبة من نوع نادر حقا، فكيف يمكنه تقديم شخصية واحدة في أكثر من عمل، وفي كل مرة يضيف إليها ما يجعلها أكثر كوميديا وأكثر شهرة.
وبعد عدد كبير من الأدوار الصغيرة مع كبار النجوم مثل (إسماعيل ياسين، عمر الشريف) وغيرهم، قرر الدكتور شديد) ترك الفن لفترة مؤقتة، بعدما عرض عليه العمل في هيئة الإذاعة بلندن في قسم اللغة العربية، عرض عليه بأن يعمل كناقد فني يقوم بحكم عمله بالنقد والحكم على الأفلام المصرية.
وبجانب عمله كناقد، كان من أكثر الفنانين المثقفين الموجودين في هذا الزمن الرائع، قام الراحل بتأليف كتاب (فن المسرح)، والذي لا يزال يدرس في معهد الفنون المسرحية حتى وقتنا هذا بسبب ما فيه من منهج واضح ومعلومات قيمة.
حاز (الدكتور شديد) على تقدير كبير واحترام من الإذاعة في لندن، لما وجدوا فيه من علم ومعرفة لا تقدر بثمن، ولكنه لم يتمكن من نسيان حبه للفن والتمثيل، وعلى الرغم من أنه لم يحظ بالمكانة التي كانت تليق به وبفنه إلا أنه قرر العودة إلى مصر مرة أخرى، ليشارك في عدد من المسلسلات المصرية.
كما شارك في واحدة من أشهر الفوازير المصرية التي كانت من بطولة الراحل (وائل نور) والفنانة (حنان شوقي)، وظل (الدكتور شديد) يعمل في السينما والدراما بأدوار ليست بالحجم الذي يستحقه.
إلى أن عرض عليه دور في مسرحية (كرنب زبادي) مع المخرج عصام السيد، وكانت هذه المسرحية هى آخر الأعمال الفنية التي قدمها قبل رحيله عن عالمنا.
لقب (الدكتور شديد)
وشارك الراحل الكبير في العديد من الأفلام السينمائية الهامة، من بينها (إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين، حماتي ملاك، اشاعة حب، بنات بحري، المجانين في نعيم)، بالإضافة للعديد من الأعمال الفنية الأخرى التي عرفته كفنان كوميدي جميل.
وعن فكرة (الدكتور شديد)، تقول ابنته (أمنية) في حديث صحفي لها قبل سنوات: مؤلف اسكتشات فرقة (ساعة لقلبك الإذاعية) عبد الفتاح السيد، هو الذي ابتكر فكرة شخصية (الدكتور شديد) الطبيب البيطري الذي يتردد علي مطعم كل يوم ودائم النسيان ويسأل الجارسون ويقول له ( قولي يا ابني هو أنا أتعشيت ولا لسه).
وهذه اللازمة كانت مكتوبة وقام بإلقائها فنالت استحسانا من الجمهور، وطلبت منه في جميع الأفلام الذي كان يؤديها.. وكانت مسرحية ذات فصل واحد على مسرح الأزبكية عام 1956، ومن هنا التصقت به شخصية (الدكتور شديد).
بعد انتهائه من مسرحية (كرنب زبادي) شعر الدكتور شديد بالتعب، ومن ثم قررت ابنته (أمينة) أن يذهب إلى المستشفى حتى لا يزيد المرض عليه، وبالفعل مكث 3 أيام في المستشفى.
ولكن لم تكن حالته خطيرة، وتفاجأ الجميع بوفاته المفاجئة، والتي حزن على إثرها ملايين المحبين للنجم الراحل وذلك يوم 12 يوليو عام 1997 وذلك قبل عيد مولده بشهر واحد، ليرحل (الدكتور شديد) عن عالمنا، تاركا وراءه العديد من الأعمال الكوميدية الخالدة، التي لا تزال ترسم البسمة على وجوه الجماهير.
رحم الله (الدكتور شديد)، أو (محمد فرحات عمر)، الذي كان يعتبر أحد الكوميديانات الكبار في السينما المصرية الذين سنظل نتذكرهم دائما، حتى وإن كان بعضنا لا يعلم أسمائهم الحقيقية أو تفاصيل حياتهم الفنية والشخصية.
ويعتبر (الدكتور شديد) من النماذج المظلومة في السينما المصرية، والذي ظل لسنوات عديدة يقدم دور(السنيد) دون الجلوس على مقعد البطل ولو لمرة وحيدة، ورغم ذلك، نجح في انتزاع الضحكات من الجمهور بفضل أدواره الشهيرة، والجمل التي كان يرددها كثيرا، ولعل أشهرها (وماله يا خويا، يارب يا خويا يارب).