(عبد الغني النجدي).. فنان عظيم تفانى وأخلص في زمن الملاليم!
بقلم: محمد حبوشة
كان الفنان القدير الراحل (عبد الغني النجدي) يتمتع بقدر عال من الذكاء، وسرعة البديهة، فقد كان يرتجل مواقفه الكوميدية، التي تؤكد تمتعه بموهبة ابتكار النكت والإفيهات التي صنعت له شخصية كارتونية مميزة داخل الأفلام، ورغم أنه لعب أدوارا ثانوية، لكنها ظلت راسخة في الوجدان الشعبي المصري.
ولعلنا نجد بعضا من إفيهات ونكت (عبد الغني النجدي)، ومنها (مشتاجين جوي يا فواكه) التي قالها ضمن أحداث فيلم (الفانوس السحري)، و(سمعتي كلامه ليه يا مهشتكة) التي قالها ضمن فيلم (بين السما والأرض)، وأيضا في نفس الفيلم، كان ينادى أثناء بيعه للسمك قائلا: (دمبري دمبري)، وكانت هذه الإفيهات فاكهة الأفلام.
(عبد الغني النجدي)، كان لديه إدراك أنه لا تختلف الشخصية المضحكة (الكوميدية) عن الشخصيات الدرامية الأخرى من حيث أبعادها وصفاتها إلا بشكل نسبي، إذ أن لها بعدا عضويا وجسمانيا معينا، وقد يكون فيه تشويه يثير الضحك (جروتسك) ولها بعدا اجتماعيا ينتمي إلى طبقة اجتماعية.
الطاقة الكوميدية التي كان يحظى بها (عبد الغني النجدي)، تؤكد فهمه لطبيعة الممثل الكوميدي، الذي ينبغي أن يقدم جهدا استثنائيا في أدائه للأدوار الكوميدية، التي تقوى على جلب الضحك والبهجة في نفوس المشاهدين من فرط عذوبتها.
يرى (فرويد) يرى أن الممثل الذي يقدم لنا عرضا مسرحيا هزليا مقارنة مع أنفسنا أنه يقدم جهدا كبيرا من خلال وظائف الجسم، وأن هذا الجهد يجعلنا متمتعين ومسرورين، وهذا هو التفوق الذي شعر به الممثل الكوميدي الرائع مثل (عبد الغني النجدي) من خلال أدواره البديعة.
براعة التقنية عند (النجدي)
من الضروري أن تكون لدى الممثل إمكاناته الذاتية التي يتمتع بها قبل دخوله مرحلة الإعداد والتدريب، وهذا مافهمه (عبد الغني النجدي)، حسب (ستانسلافسكي): يجب أن يتمتع الممثل بالوحدة التي تعتمد على العامل الجسماني والنفساني في إبداع الممثل، وأن يعيش المشاعر الحقيقية للشخصية التي يلعبها.
وذلك بالاعتماد على براعته التقنية بشكل أساسي، ويفضل بعض الممثلين هذا الأسلوب التعايشي مع الشخصية، مثلا اختار الممثل (عبد الغني النجدي)، هذا الأسلوب التمثيلي ونفذه في أعمال في أعمال سينمائية تتسم بالوعي وفهم اللغة الإبداعية، التي تقيم علاقة بالأشياء والكتل ومكونات الفضاء الإبداعي على شاشة السينما.
أداء (عبد الغني النجدي)، البسيط والسهل، وملامحه الطيبة وإتقانه لأدواره جعله ينجح في ترك بصمة واضحة وإرثا فنيا كبيرا، وكسب قلوب المشاهدين، ورغم قصر أدواره إلا أنها ظلت تمثل علامات مميزة في سينما الكوميديا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.
فكان (عبد الغني النجدي)، متقن متميز لأدواره وبدى وكأن أبرز ملامحه أنه يرتجل ما يؤديه، بفرط من موهبته أثبت كفاءته في مجال الكوميديا الساخرة من نفسه تارة، وتارات أخرى من شخصيات في حياتنا، كان يلتقطها من الشارع ويصيغها بعذوبة وتلقائية شديدة.
الثابت تاريخيا أن (عبد الغني النجدي) كون مع الفنان الكبير (إسماعيل ياسين) ثنائيا فنيا، وبالرغم من كونه لم يقدم سوى أدوارا صغيرة في أعمال النجم الكوميدي، لعل أبرزها: (الفانوس السحري، حلاق السيدات، العتبة الخضراء)، إلا أنه تميز بالطرافة وجلب الضحك النابع من القلب.
معروف في سيرة (عبد الغني النجدي)، أنه كان يبيع المونولوجات والنكات لكبار نجوم الكوميديا مثل (محمود شكوكو) و(إسماعيل ياسين)، وكانت النكتة الواحدة مقابل جنيه واحد، أي أنه فنان عظيم تفانى وأخلص في زمن الملاليم!
الممثل (عبد الغني النجدي) في السينما كان يحمل صفة الازدواجية المتمثلة بأدائه، فهو نفسه الأداة التي يعبر بها عن صفات الشخصية التي يمثلها، وهو أيضا مادة التعبير عن تلك الصفات.
وإذا كان الممثل بصورة عامة يتحمل مثل هذه الأزدواجية فالمهم عنده هو ذاته، أن يهتم بتقنياته الجسمانية والصوتية والنوع وشكل الحركة التي يؤديها لكي تضحك المتفرج وبنغمة الصوت وإيقاع الكلام الذي يثير الضحك عبر مواقف خفيفة.
لهذا برع (عبد الغني النجدي) في إيصال مشاعر وعواطف الشخصية التي يمثلها، ومن غير أن يفكر بأبعاد تلك الشخصية اللهم إلا بالمظهر الخارجي لها، بمعنى أن تمثيله في جميع الأعمال التي يشارك فيها يأخذ أسلوبا متشابها مهما اختلفت الشخصيات التي يمثلها نسبيا.
أصوله ترجع لقبيلة نجد
الفنان الراحل (عبد الغني النجدي)، بحسب بوابة (فيتو) من مواليد 6 ديسمبر 1915 بقرية (المشايعة)، مركز الغنايم بمحافظة أسيوط، ولقب بالنجدي؛ لأن أصوله ترجع إلى (قبيلة نجد) السعودية التي نزحت إلى صعيد مصر واستقرت بها.
نشأ (عبد الغني النجدي) في أسرة فقيرة، وكانت عادة تلك الأسر في ذلك الزمان عدم تعليم أبنائها، إلا أن (النجدي)، كان يتمتع بقدر عال من الذكاء فنصح المقربون من والده بضرورة تعليمه، وبالفعل حصل على الابتدائية.
وبعدها تصادف فتح باب القبول بمدرسة الفنون التطبيقية، التي تحولت فيما بعد لكلية الفنون التطبيقية للطلبة الحاصلين على الابتدائية للالتحاق بها، وبالفعل التحق بها (عبد الغني النجدي)، وأكمل تعليمه بها حتى بعد تحويلها لكلية، أتم دراسته بها وتخرج فيها عام 1930.
وبعدها انتقل (عبد الغني النجدي) للقاهرة للالتحاق بكلية الحقوق، وحصل على بكالوريوس الحقوق جامعة القاهرة، وتصادق أن كان للنجدي مجموعة من الأصدقاء الذين يعملون (كومبارسات) في بعض الأعمال الفنية، فلاحظوا عليه روح الدعابة والفكاهة وتلقائية الأداء فنصحوه بدخول عالم الفن.
كانت نصيحة أصدقائه كأحد السبل لتحسين دخله ومساعدة والديه وأسرته في الصعيد، ووافق عبد الغني النجدي، وتم تحديد موعد له مع مخرج أول أعماله الفنية (نيازي مصطفى)، عام 1944 فيلم (شارع محمد علي).
وكانت أول مشاهده من خلال ذلك الفيلم، والتي أداها ببراعة، بمثابة نقطة لينطلق منها بقوة في تقديم أدوار الكومبارس الصعيدي كـ (البواب، العسكري، الساعي، البقال،… إلخ).
والمتتبع لمسيرة (عبد الغني النجدي) سوف يلحظ أنه لم تقتصر موهبته فقط كونه ممثلا بارعا، ولكن كان كاتبا جيدا جدا للسيناريو، إلا أن ضيق ذات اليد أجبره على كتابة أعمال فنية كثيرة بمقابل مادي دون أن يكتب اسمه عليها، إلى حد أن ينزل العمل الفني باسم أحد الكتاب الكبار دون إشارة له.
فكتب (عبد الغني النجدي) سيناريوهات أفلام ويبيعها للكتاب الكبار مقابل 10 جنيهات دون وضع اسمه عليها، وشارك في عدد من الأعمال الإذاعية، وكان آخر أعماله التي شارك بها فيلم (خلف أسوار الجامعة) الذي عرض عام 1981، أي بعد وفاته بعام واحد.
كما كتب أغاني أفلام منها أغاني فيلم (السر في بير)، وشارك في عدد من الأعمال الإذاعية، منها، المسلسل الإذاعي (قهوة كوكو)، الذي قام ببطولته الفنان المونولجست (محمود شكوكو).
خفيف الظل بالفطرة
عرف (عبد الغني النجدي)، بأنه خفيف الظل بالفطرة، وحاضر النكته لدرجة أنه كان في بداياته يجلس على قهوة في شارع (عماد الدين)، ويكتب نكت والنجوم يشتروها منه النكته بجنيه (وكان سعر غالي وقتها)، ومن زبائنه كان (إسماعيل يس وشكوكو وسيد سليمان).
كان المؤلفين يستعينون به كي يطعم قصص أفلامهم بقفشات وإفيهات كانت مشهورة جدا في فترة الخمسينات، واشتهرت على لسان كبار ممثلين الكوميديا، وبعض هذه الأفلام كانت تكتب اسمه على تتراتها كمشارك في كتابة الحوار الكوميدي، لكن الغالبية لم تكتب اسمه عليها.
(عبد الغني النجدي)، يعتبر فنان كومبارس مساعد، لكنه كان بطلا لم يأخذ دور البطولة قط، لكنه نجح في أدواره الصغيرة المميزة التي كان يؤديها باحتراف، حيث جعل شكله المميز بشنبه ينجح في هذه الأدوار إلى حد كبير.
وتنوعت أدوار (عبد الغني النجدي) في عدة أفلام مثل: (شيلنى وأشيلك، لمن تشرق الشمس، العيال الطيبين، المأذون وعادت الحياة، الشندى البواب، لا يا من كنت حبيبي، المذنبون، عالم عيال عيال، صائد النساء، المطلقات، لا شيء يهم، قاع المدينة، الشوارع الخلفية، المخادعون، مدينة الصمت الرجل الثاني، بنك القلق، هروب، المجهول، الخطايا، العتبة الخضراء، الفانوس السحري).
وكان آخر أعماله التي شارك بها فيلم (خلف أسوار الجامعة) الذي عرض عام 1981، أي بعد وفاته بعام، بعدما شارك في حوالي 250 عملا سينمائيا ودراميا، وكتب حوارا لفيلم وحيد باسمه هو فيلم إجازة بالعافية.
250 عملا سينمائيا ودراميا
وبعد أن شارك (عبد الغني النجدي) في حوالي 250 عملا سينمائيا ودراميا، وكتب حوارا لفيلم وحيد باسمه هو فيلم (إجازة بالعافية) أصيب آواخر أيامه بحالة من الاكتئاب والحزن الشديد.
ويحكي عنه أنه كان كلما شاهد عملا فنيا قام بكتابة السيناريو والحوار له دون أن ينزل اسمه عليه، فكانت تنتابه حالة من البكاء، قائلا: (الحاجات دي بتاعتي ياريتني كتبت اسمي عليها، ولكن يكفيني أن أبويا مات راضيا عني، أما أنا فلست راضيا عن نفسي).
جدير بالذكر أن (عبد النجدي) تزوج مرة وحيدة من الراقصة والمونولوجست (بديعة صادق)، وأنجب منها ابنه الوحيد (خالد عبد الغني)، وكانت الفنانة الراحلة (بديعة صادق) هيىأخت الممثلة (كوكب صادق) والدة الفنانة والإعلامية الكبيرة (إسعاد يونس).
وانفصلت (بديعة صادق) عنه بعد إنجاب ابنهما الوحيد، بسبب ما وصفته بأنه غير تطلعي ولا يسعى لتحسين وضعه، خاصة في الوسط الفني.
إلا أنه ظل يحبها، ويصف انفصالها عنه، قائلا: (طعنتني في قلبي فلا أثق في النساء وهفضل حاطط إيدي على جرح قلبي)، حتى أصيب بمجموعة من الأمراض وتوفي متأثرا بها في 20 مارس 1980، عن عمر ناهز الـ 65 عاما.
وفي النهاية لا نسيطيع إلا أن نقول رحم الفنان الكبير الراحل (عبد الغني النجدي)، الذي عاش مأساة كومبارس يحمل (سبع صنايع والبخت ضايع)!
فقد استطاع (عبد الغني النجدي) أن يصبح وجها من الوجوه المألوفة والمحبوبة في الأفلام القديمة من الأربعينات حتى الستينات، رغم أن أغلب المشاهدين لم يعرفوا اسمه، لكن يعرفه شكله وضحكته وصوته وطريقة كلامة وقفشاته التي تميز شخصيته الكوميدية.
ولهذا كان (عبد الغني النجدي) تقريبا أيقونة الحظ للمنتجين، فكان لايخلوا فيلم قديم من مشهد أو لقطه له أحيانا لا تستغرق ثوان، ولكنه كان يملك القدرة على الحصول أكبر قدر من الضحكات خلال تلك الثواني بفرادة موهبته الكوميدية.