كتب: محمد حبوشة
إن السينما ليست مجرد طريقة لاضاعة الوقت والتسلية، بل هى تعطي الأفكار والقناعات للمشاهد عبر الصورة الساحرة والحوار المقنع والفكرة التي يتقبلها المتلقي إنها صناعة تواكب الأحداث وترسم سيرة للأحداث، وتحاول أن تنصف وتعطي رايها بما يحصل من منظور مهم، مثل فيلم (صرخة نملة).
وظني أنه رغم الملاحظات النقدية العديدة على فيلم (صرخة نملة) الذي أنتج عام 2011، لكنه يسقط على الواقع الحالي، وكأنه كان يستشرف المستقبل قبل 13 عاما، ليضيف مؤلفه (طارق عبد الجليل) بعدا آخر عن الفساد الحكومي في عهد مبارك، ويهاجم الحكومة وفاسديها.
المواطن المصري مات
ولم يتوقف الفيلم عند هذا الحد بل أراد ان يوصل رسالة أن المواطن المصري مات من زمان فاطلق جملة (الله يرحمك يا مصري)، كان يقصد بها الشخصية الأولى، لكن هي تسقيط على عمق الأزمة وحجم الصورة القاتمة التي يصورها الفيلم لعدمية المواطن المصري وانعدام أي فرصة لتحقيق اي شيء.
فالفيلم لا يرسم أي إمكانية للمواطن المصري أن يثور ويواجه أسباب فشله ويعود للحياة لأنه ببساطة صوره الفيلم على أن المواطن المصري ميت !
(صرخة نملة) هو أول طرح السينما المصرية بعد الثورة، وكان مفترضا أن يكون ترجمة صادقة لها، ولكنه فقط حاول الانتساب إليها اعتمادا على حالة التأهيل الجماهيري واستعداد الشارع لخطاب التمرد.
سر عذاب (جودة)
هذا هو سر عذاب (جودة) وانقياده الى قلاع أمن الدولة المصرية سابقا، والحقيقة أنه خيط واهن وضعيف ولا يحتمل النسج الذي جاء عليه فمثل هذه القضية يمكن اختلال بدايتها ونهايتها في مشهد أو مشهدين أو ثلاثة على الأكثر.
وكان يصح أن تكون مجرد تفصيلة صغيرة في الفيلم لا أن يقوم عليها البناء الدرامي كله، كما ان الخلط بين مسيرة جودة المصري والتوجه السياسي لصديقه اليساري الذي جاء بمثابة دعم لحدوتة البطل ومحاولة فاشلة من جانب السيناريست لخلق تواز سياسي اجتماعي.
هو نوع من التعسف والاضطرار للإحساس بأن هناك شيئا مفقودا وناقصا يجعل الأحداث غير مقنعة، وهو بالفعل ما حدث لأن المشاهد وجد نفسه أمام توليفة درامية غير متجانسة بها من المكونات ما يفسد الشكل والطعم.
فالكاتب حائر بين تغليب الكوميديا والمتاجرة بالسياسة والاقتراب من النبض الاجتماعي لاستخلاص حالة شبيهة بأدوار (عمرو عبدالجليل) السابقة.
لأنه يراهن على ما قدمه من نماذج ناجحة جعلته بطلا كوميديا متخصصا في الإفيهات وقلب الجُمل الصحيحة لتبدو دليلاً عفويا على جهل الشخصية الهامشية وتلقائيتها في نطق الأخطاء بيقين الصواب.
وهذه لعبة يجيدها تماما (عمروعبد الجليل) ولا يباريه فيها أحد، ويمكن اعتبارها فنا خالصا من اختراعه، ورغم التسليم بالمهارة الكوميدية يبقى الخلاف على الفيلم كله قائما فنحن لازلنا بصدد إشكالية التهجين السياسي لأفلام تثير السخرية والضحك.
ولا يوجد ما يبرر ربطها بالثورة من قريب أو بعيد إلا إذا ادعينا السذاجة واعتبرنا أن سجن البطل (جودة المصري) في العراق والتحقيق معه في أمن الدولة كان مقدمة للثورة الشعبية الكبرى.
مع انه لو صح هذا التفسير وجاز لنا اعتماده فلابد من التعامل مع (جودة المصري) بوصفه ممثلا للغالبية من الشعب المقهور، وعندئذ سنكون مطالبين بتوضيح خصوصية الشخصية المحورية وتمييزها عن الشخصيات الأخرى التي واجهت محنا أشد من محنة (جودة).
حكم جائر بالخرس
(صرخة نملة) بعيدا عن التصنيفات التعسفية فيلم بسيط به من المحاسن الفنية الكثير، فالصورة الرائقة بعيدة العمق تجب العيوب الأخرى والموسيقى التصويرية والإضاءة حسنيان يندر الجمع بينهما إلا في حالات خاصة واستثنائية.
فقد شكلا ثراء فنيا كان تعويضا لما شعرنا به من هنات في المفردات الأخرى وتراتبية الأحداث ومنطقيتها، ولا ننسى في معرض الحديث عن الجيد والمتميز ذكر الأبطال الثانويين والوجوه الجديدة.
فقد اجتهدوا أيما اجتهاد واستطاعوا أن يتركوا أثرا إيجابيا لدى المتلقي رغم تزاحم الأفكار والمسارات والتركيز المرهق في استنباط المعاني الظاهرة والباطنة والآتية جزافاً أو اعتباطا أو بمحض الصدفة.
(صرخة نملة) حكم جائر بالخرس على ثورة ملأت أصداءها أفاق العالم كله، لو افترضنا ان هناك وجها للشبه بين الثورة والنمل والصرخات المكتومة!
لقد لفت نظري هذا المشهد الذي يمثل إسقاطا على واقعنا الحالي وكأنه كان يستشرف المستقبل قبل 13 عاما وجاء على النحو التالي:
يسرح عمرو عبد الجليل بخياله: خليك فاكر يا جودة: تعيش نملة تاكل سكر، ثم يخرج في مظاهرة احتجاجية قائلا: إحنا النمل فين السكر؟
وبعد أن قبض عليه وتم الإفرج عنه بعد تعذيبه: جلست ثلاثتهم (عمرو عبد الجليل وأحمد وفيق، ويوسف عيد) على شاطئ النيل.
يوسف عيد: انت قاعد هنا واحنا قابلين الدنيا عليك؟، طب بالزمة قاعد تعمل ايه؟
عمرو عبد الجليل: حنعمل ايه في المية وكروت الشحن؟
يرد (يوسف عيد): ياعم بسيطة: حنمشي ماسورة من ورا العداد زي ما احنا ضاربين فازا في عداد الكهربا.
جودة: انت عاوز تحبسنا ولا ايه.. خلاص بقى نجهز صكوك.
يوسف عيد: صكوك ايه إذا كنت أنا من ساعة ما اخدته مش جايب أكتر من خمسن جنيه.. الصكوك يا حبيبي مرطرطة في السوق وكالعادة بيلمها مسثمر كبير، وموت السعر على الآخر.
جودة: يعني يبقى النيل في بلادنا ويبيعولنا المية؟.. وكمان الدفع مقدما؟
أحمد وفيق: النيل الحكومة ضيعته يا خويا!.. لا والصهاينة بيشغلونا في القضية الفلسطينية اللي عمرهم ما حيحلوها أبدا.. بيمدو ايديهم من ورانا ويقفلو المحبس الكبير.. حتتقطع علينا المية ياجودة، وفي الآخر المية حتروح تل أبيب!
جودة: ياعم ان شاء الله تروح إسرائيل.. هى دي بلدنا.. احنا يادوب شوية نمل ماشين جنب الحيط.
أحمد وفيق: اللي بيحصل ده غضب من ربنا.. عايز يطربقها على اللي سرقوها وخربوها.
يوسف عيد: يلا خليهم.. حاكم بيني وبينك ما يعرفش قيمة الحاجة لما تروح منه!
ثم يقوم يوسف عيد بقضاء حاجته في النيل دون مراعاة حرمة أو ناموس..
أحمد وفيق: بص الحمار بيعمل ايه في النيل؟!
عمرو عبد الجليل بسخرية: عرف ان المية راحها تل أبيب حب يدحرج المسا!.. ثم يلتفت ليوسف عيد قائلا يسخرية ممزوجة بالأسى: دحرج ياخويا دحرج.
تأمل جيدا هذا المشهد وستكتشف أن الفيلم على علاته قد تنبأ بالمستقبل الذي نعيشه حاليا في ظل أزمة الكهرباء والمياه التي تعصف بحياتنا الآن.