بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
يُعدُّ التضليلُ الإعلامي إبان حملات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي سلاحًا قويا؛ فهو أداةٌ لنزع الصفة الإنسانية عن الضحايا، وتبرير العنف الجماعي، والأهم من ذلك، بث الشكوك بُغية تكميم الدعوات المنادية بالتدخل، ومع ذلك هناك إعلاميات ضد (إسرائيل) في حربها.
(إسرائيل) وفي حربها الدائرة على غزة منذ السابع من أكتوبر، تتحرك في مسارات عدة متوازية لا يقل كل واحد منها أهمية عن الآخر، وإن كان المسار العسكري الإجرامي الذي شرعت فيه منذ بدء العدوان.
يأتي على رأس تلك المسارات، لكن يظل مسار التضييق على الإعلام هو الآخر من أهم مسارات العدوان المتواصل على القطاع منذ نحو 9 أشهر بلا انقطاع.
الشواهد كثيرة ومتتابعة ويوما بعد يوم تُظهر الوقائع حجم الضرر الذي لحق بالعاملين في مجال الاعلام داخل غزة، فضلا عن ملاحقة الإعلاميين ومحاولة المساس بهم.
حتى الأسبوع الثاني من شهر يونيو ارتفعت حصيلة الشهداء الصحفيين جراء عدوان (إسرائيل) على غزة إلى 150 منذ 7 أكتوبر، ومنذ بداية الحرب واجه الصحفيون في القطاع هجمات متواصلة تستهدفهم بشكل مباشر وتطال منازلهم وعائلاتهم ومقرات مؤسساتهم الإعلامية.
أداة ملاحقة الإعلاميين ومقدمي البرامج حول العالم والإعلاميات منهن على وجه الخصوص، تفاقمت بهدف طمس وإخفاء الحقيقة، وسط يقين إسرائيلى أن توجيهها ضربات لوسائل الإعلام الناقلة للحقائق والوقائع، يساعدها في إخفاء جرائم الحرب والمجازر التي ترتكبها.
فى مسعى منها لإسكات وسائل الإعلام ومنعها من تداول الأخبار والصور حول المجازر المرتكبة ونقل تلك المجازر واحدة تلو أخرى.
ولا يقتصر التضييق الإسرائيلي على الإعلام ومحاولات فرض الوصاية عليه على قطاع غزة وحده، بل يمتد من واشنطن للقاهرة مرورا بلندن ونيودلهي وبرلين وعواصم أخرى.
فصل المذيعة (لمى طاطور)
ليس ذلك فحسب بل داخل (إسرائيل) ذاتها، محطما معه أسطورة من أساطير الوهم الصهيوني والمتعلقة بكون (إسرائيل) واحة للحرية والديموقراطية في منطقة الشرق الاوسط والادعاء دوما بتفردها بتلك المكانة.
وربما كان اغتيال الإعلامية الراحلة (شيرين أبو عاقلة) العام الماضى، قبل بدء العدوان على غزة من أبرز شواهد هذا النهج لإسكات الصحفيين وإرهاب وسائل الإعلام التي لا تتبنى السردية الإسرائيلية وتبحث عن الحقيقة في الميدان.
واقعة فصل المذيعة (لمى طاطور) بالقناة 12 الإسرائيلية، في التاسع من يونيو الحالي، دليل آخر على منهجية التعامل الإسرائيلي مع الإعلام والإعلاميات، وأن ما يحدث ليس محض صدفة بل أسلوب ثابت تسير عليه تل أبيب في طريقها لفرض روايتها بشأن الحرب علي غزة.
إذ تسبب منشور للمذيعة بطردها من عملها، بعد تعليقها على (إنستجرام) على مظهر أسيرة تمكن الاحتلال من استعداداتها من داخل القطاع، بعدما اعتبرت القناة أن (طاطور)، سخرت من (نوعاه أرجماني).
في منشور قالت فيه: (هاي شكل واحدة مخطوفة صارلها 9 أشهر.. حواجبها أرتب من حواجبي.. بشرتها؟.. شعرها.. أضافرها؟ إيش في؟، وقولها (عشان هاي لازم يموت ويتقطع أطفال ونساء وأبرياء)، وهو ما اعتبرته القناة (كلام غير مقبول ولذلك تم إيقافها عن العمل).
(ميمري) يراقب (قصواء)
من تل أبيب للقاهرة، حيث تترصد اعين تل ابيب الاعلام المصرى، وواقعة نشر موقع (Memri)، التابع لمركز الشرق الأوسط للدراسات المختص بمتابعة الخطاب الإعلامي في منطقة الشرق الأوسط، فيديو بعنوان (الإعلامية المصرية قصواء الخلالي ترد على مقطع قناة Memri).
هذا خير شاهد إذ فجرت معها محاولات ملاحقة إسرائيل لها، بدعوى (حضها الأسر المصرية على كراهية إسرائيل والصهيونية)، وهو ما ردت عليه (قصواء) في برنامجها المُذاع عبر قناة CBC، بسؤالها عما توقعته القناة الإسرائيلية منها.
وهل المفترض منها أن تقول: (إن إسرائيل حلوة مثل الشوكولاتة؟)، وقولها (إن هذا الفيديو جاء في وقت تعج فيه الجامعات في أوروبا وأمريكا وأماكن أخرى بالتظاهرات الرافضة للأعمال الإسرائيلية.
في ألمانيا التي تُعد هى الأخرى من الدول الداعمة لإسرائيل بصورة مطلقة منذ بداية الحرب، تواصل نهج التحرض والملاحقة بإعلان هيئة الإذاعة والتلفزيون في جنوب غربي ألمانيا، في أبريل الماضى، فصل المذيعة (هيلين فارس) من عملها بزعم دعوتها لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية.
مع الادعاء أن قرار فصلها جاء بسبب مشاركتها تطبيقاً جرى إنتاجه لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية على حسابها في مواقع التواصل الاجتماعي، وكونها (انتهكت مبدأ الحياد) من خلال ترويجها للتطبيق على حساباتها في مواقع التواصل.
وهو ما ردت عليه (هيلين) عبر حسابها على (إنستجرام) بقولها إن (وسائل الإعلام الألمانية تحاول إسكات كل الأصوات التي تتحدث باسم فلسطين، ولهذا السبب نحن في حاجة إلى التحدث أكثر وبصوت أعلى).
لا مكان لليسار فى إسرائيل
في الشهر ذاته كانت واقعة فضح المذيعة الأمريكية (آبي مارتن) محاولة الغرب تصدير صورة مغايرة للحرب على غزة، وانحيازه الواضح لإسرائيل، وهو ما آثار معه حالة من الجدل في الأوساط الإعلامية والسياسية الأمريكية بسبب مواقفها وآرائها الداعمة للقضية الفلسطينية.
بعد لقائها مع المذيع البريطاني (بيرس مورجان)، أحد أشد المدافعين عن إسرائيل، والذي اشتهر بسؤاله المتكرر إلى ضيوفه منذ السابع من أكتوبر الماضي (هل تدين حماس؟) عبر برنامجه بقناة TalkTVUK، والتي أظهرت خلاله تعاطفها مع غزة، وحديثها معه عن المجتمع الإسرائيلي وتطرّفه..
منتقدة المحاولات السياسية والإعلامية لتصوير المشكلة، وكأنها في رئيس الحكومة نتنياهو، وليس في إسرائيل بأكملها، واصفة المجتمع الإسرائيلي بأنه “فاشيّ، ولا مكان هناك لليسار من الأصل).
ومؤكدة أنها تنزعج حين ترى السياسيين يحاولون حصر الأمر في (نتنياهو) وكأنه حالة متطرفة في المجتمع، في حين أن الحقيقة أنه نموذج فقط من البقية، وأكدت أن السياسيين والصحفيين في العالم يحاولون تصدير تلك الفكرة لكن الحقيقة أن هذه هي إسرائيل، الدولة الاستعمارية التي تأسست على التهجير العرقي للفلسطينيين.
وتحدثت عن الفترة التي قضتها داخل الأراضي الفلسطينية، وكيف صرّح الإسرائيليون الذين قابلتهم هناك عن نيتهم إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم، دون أي خوف،.
كما أشارت إلى رؤية المجتمع الإسرائيلي لما يحدث في غزة، وتأييد الأغلبية الساحقة لما يفعله الجيش من جرائم، بل يرى البعض أن الجيش لا يستخدم قوة كافية.
ممتنة لأنهم وجهوا بنادقهم نحوي
فى امريكا حيث معاقل الدفاع عن (إسرائيل)، وفي مارس الماضى كانت واقعة فصل منصة (ديلي واير) الأمريكية تعاقدها مع المذيعة (كانديس أوينز) بسبب موقفها الداعم للقضية الفلسطينية ورفضها للحرب على غزة.
فضلاً عن رفضها المتكرر لتدخل اللوبي الصهيوني في هوليود وضغطه على الفنانين والممثلين الداعمين لفلسطين، ومحاولة إقصائهم من صناعة السينما، وأخيراً توتر العلاقة بينها وبين المذيع بالمنصة المناصر لإسرائيل (بن شابيرو)، واتهامها بـ (الترويج للأفكار المعادية للسامية).
وهو ما ردت عليه (كانديس) على صفحتها بمنصة (إكس) قائلة: (الشائعات صحيحة، لقد أصبحت أخيرا حرة، أنا ممتنة لأنهم وجهوا بنادقهم نحوي، هجماتهم سيكون لها التأثير المعاكس المطلوب، جريمتي هى أنني لا أعتقد أن دافعي الضرائب الأمريكيين يجب أن يدفعوا ثمن حروب إسرائيل أو حروب أي دولة أخرى.. لن أغير رأيي).
وفي أمريكا أيضاً فصلت قناة (هيل) مذيعة الأخبار (كاتي هلبيرين) من عملها بعد أن نقلت عن منظمات حقوقية وصف الاحتلال بأنه نظام فصل عنصري.
جيش يقوده متطرفون
من واشنطن لاستراليا وواقعة فصل إذاعة (أي بي سي)، في ديسمبر 2023، المذيعة اللبنانية الأصل (أنطوانيت لطوف)، على خلفية نشرها تدوينات داعمة لفلسطين عبر مواقع التواصل كتبت فيها: (إن جيش الاحتلال الإسرائيلي، جيش يقوده رجال متطرفون متعطشون للدماء يريدون تبرير الإبادة المستمرة للفلسطينيين).
وتبع ذلك وصول شكاوى عدة من الجالية اليهودية إلى رئيسة الإذاعة، وهو ما ردت عليه (لطوف) في منشور عبر (انستجرام)، بقولها: (أن إذاعة – أي بي سي – فصلتها بشكل غير عادل، وأن قرار الإذاعة : ليس فوزًا للصحافة أو التفكير النقدي العادل، مشيرة إلى أنّها ستتخذ إجراءات قانونية ضد القرار).
صهاينة بريطانيا
أما في بريطانيا فقد وضعت المنظمة الصهيونية HonestReporting التي تأسست عام 2000 على يد طلاب جامعيين بريطانيين يهود الممولة من تل أبيب وواشنطن وتربطها بالسلطات الإسرائيلية وأجهزتها صلة وثيقة، هدفاً واضحاً لها وهو مطاردة كل شخص يجرؤ على قول الحق والتعبير عن إدانته لإسرائيل.
حيث أطلقت عرائض لطرد صحفيين وموظفين من مؤسسات وشركات عالمية يساندون القضية الفلسطينية، والأدهى أنها تنجح في ذلك، وتحرض على كل متعاطف مع الفلسطينيين، وتدعي بخبث أنها لا تقوم إلا بالفضح والردّ على انعدام الدقة والانحياز في التغطية الإعلامية بما يتعلق بإسرائيل.
وفي سجل هذه المنظمة ما تراه (إنجازات) عدة؛ منها نجاحها في دفع قناة (بي بي سي) البريطانية لطرد الصحفية الفلسطينية (تالا حلاوة)، على خلفية تغريده وصفت فيها إسرائيل بـ (النازية)، فضلاً عن عشرات الوقائع المماثلة.
سعداء بقتل الأطفال
في بريطانيا كذلك كان حديث المذيعة بقناة (بي بي سي) البريطانية (أنجانا جادجيل) في مقابلتها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (نفتالي بينيت)، على خلفية اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين بالضفة الغربية في يوليو 2023، بأن (القوات الإسرائيلية سعيدة بقتل الأطفال الفلسطينيين).
حيث بدا (بينيت) غاضبًا من المذيعة بقوله: (من الرائع جدًّا قول ذلك لأنهم يقتلوننا)،
وفي وقت لاحق قدمت إدارة (بي بي سي)اعتذارًا عما قامت به المذيعة بعد ورود بضع شكاوى إلى إدارة القناة، وذكرت في حينه: (نأسف لأن اللغة المستخدمة في المقابلة لم تكن جيدة وكانت غير ملائمة).
المثير فى هذا السياق انه ومع بداية العدوان على غزة، كانت واقعة اشتباك المذيعة بقناة Mirror Now الهندية (شريا دونديال) ببرنامجها مع ضيفها الإسرائيلي (فريدريك لاندوا) بسؤالها (عن استهداف المستشفى المعمداني في غزة، الذي أسفر عن مقتل أكثر من 500 شخص، بينهم أطفال ونساء).
وهنا انفجر (لاندوا) غاضباً، متهماً المذيعة بتعمد ارتداء زي يحمل ألوان العلم الفلسطيني، في إشارة منه إلى تعاطفها مع القضية الفلسطينية، وزاد من غضبه أنه كان قد تعمّد ارتداء اللونين الأزرق والأبيض اللذين يتكون منهما العلم الإسرائيلي.
قائلاً: (رغم ارتدائك لهذه الألوان، سيظل الأزرق والأبيض متفوقين دائمًا)، وعبر العديد من رواد مواقع التواصل في حينه عن إعجابهم بموقف المذيعة الهندية، مؤكدين أنها أظهرت شجاعة وثباتاً في مواجهة الضيف الإسرائيلي الغاضب.
ربما تفسر هذه الجولة فى عواصم العالم أجمع معها أن استراتيجية إسرائيل في غزة لا تقتصر على نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين وتبرير جرائم الحرب بذريعة الدفاع عن النفس، وإنما تعمدُ إلى إغراق بيئة المعلومات بطوفان غير مسبوق من المعلومات المضللة، وتشويه كل من يحاول دعم ومساندة ونُصرة الحق والدفاع عنه.
وعلى رأسهم العاملين في مجال الإعلام، فلولا هؤلاء الأبطال لظلت الرواية الإسرائيلية الكاذبة هى السائدة.