رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: مع (صلاح عبد السيد).. (1).. في خلية النحل

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

كنت سعيدا بزيارته لى كعادته كل إجازة يقضيها في مصر كفاصل قصير من مرارة الغربة.. تناقشنا حول عدد من قصصه القصيرة وكاشفته برأى الذى أكرره دائما.. فقصص (محمد عبد الواحد) ذات اتجاه متفرد.. كان محور حديثنا (صلاح عبد السيد).

لا يخضع (محمد عبد الواحد للتأثر بأى مدرسة محلية أو عالمية.. أستطيع بكل ثقة أن أوقع بدلا منه باسمه تحت أي قصة مجهولة المؤلف.. فبصمته في الفكرة و منظور تناولها وأسلوب تنفيذها يصعب أن تختلط عليك مع كاتب آخر.

كان رأى (محمد عبد الواحد) أنه لا يكف عن القراءة للجميع.. وامتصاص الرحيق من كل الزهور.. لكنه لو أخرج الرحيق رحيقا فقد عطب وجوده كنحلة.. وإنما تحول إلى مجرد آلة تعليب.. أو مصنع ينتج بالعدد والكم منضما إلى جوقة عماله لمزيد من الإنتاج .

بعد صمته للحظات عقب – أحاول دائما الخروج من مجال أي كاتب.. فقط كاتب واحد لم أستطع مغالبة مغناطيسيته الهائلة.. وأشهد على تفرده عالميا وليس فقط محليا – سألت محمد (عبد الواحد) عن هذا الكاتب ليجيب: (صلاح عبد السيد) .

ابتسمت ابتسامة ارتدت على قسمات وجهه علامة استفهام!

بادرته: هل قابلت (صلاح عبد السيد) من قبل؟

هذا السؤال ذكرنى باعجابى منذ زمن بعيد بالروائى (سعد مكاوى).. بعد أن أنهيت قراءة أعماله تمنيت لقائه.. لكننى لم أكن أعلم هل هو على قيد الحياة أم توفى.. و لم أعلم أنه على قيد الحياة إلا صبيحة خبر وفاته.. كانت حسرة لم تنتهى فرصة ضياع مثل هذا اللقاء ؟

إذن.. عليك الآن أن تستعد لعدم ضياع مثل هذه الفرصة مرة أخرى مع (صلاح عبد السيد).

(صلاح عبد السيد) بجوار (محمد عبد الواحد)

(صلاح عبد السيد).. صديق العمر

شعرت بفرحته الغامرة حينما كاشفته أن (صلاح عبد السيد) هو صديق العمر.. تشاطرنا سويا طريق الإبداع في القاهرة لعشرات السنوات.

بل وأن العديد من قصصه مثل قصة (الصفارة) وحالة العرج الجماعى التي أصابت كل شخوص احدى قصصه و غيرهما كانت نتاجا لمواقف رويتها بنفسى لـ (صلاح عبد السيد) فالتقطها وأدارها في آلته الإبداعية لتخرج قصصا خالدة ترتج نبضا وتموج حياة (سوف أذكر في مقال قادم بعضا من هذه المواقف).

صحيح أننا لم نلتق منذ سنوات عدة لكن هناك في الوجدان دائما ركنا لشخص لا يغادره أبدا .. و لا يبهت وجوده لمسافات أو غياب.. شخص يشاطرك حياتك كأنه لصيق أبدى لا يغادرك حتى بعد الموت.. هذا هو (صلاح عبد السيد) عند (إبراهيم رضوان).. و(إبراهيم رضوان) عند (صلاح عبد السيد).

بعد انصراف (محمد عبد الواحد) كنت في سباق مع الزمن لترتيب لقاءه مع (صلاح عبد السيد) من ناحية، ومن ناحية أخرى ترتيب جرعة حياة أرشفها من عودتى لرؤية أعلى درجة في النقاء الانسانى والابداع الأدبى.

فتشت في دليل الموبايل القديم.. تذكرت أن صلاح عبد السيد) رفض حمل هذا الاختراع منذ ظهوره.. توافقا مع طبيعته التي تكره الإزعاج أو أي نوع من التداخل مع صفاءه الذهني.

فتشت في بعض الكراسات القديمة.. عثرت برقم بيته باهتا بقلم رصاص.. بالتأكيد قد تغير الرقم لكنه تخايل الأمل.. القشة التي تطفو فوق الموج وسط البحر الشاسع.. بمجرد أن أنهيت ضرب الأرقام استمريت منصتا لصمت طويل.. قبل أن أغلق السماعة يفاجئنى صوت الجرس يرن عند الطرف الآخر – آلو:

لم اخطئ صوتها رغم ستائر الزمن الثقيلة المتتالية في انسدالها – آلو: أنا (إبراهيم رضوان).. مش دا برضه رقم أ..

ازيك يا أستاذ (إبراهيم).. ياه.. بقى دى العشرة؟.. تنسى صديق عمرك كده؟

أنسى حته من روحى إزاى؟..أنا دورت كتير على رقم التليفون بس النهارده بترتيب إلهى لقيته.. وكنت خايف كمان تكونوا غيرتوا العنوان و لتليفون .

احنا فعلا غيرنا العنوان.. بس نقلنا معانا رقم التليفون.

و أخبار (صلاح عبد السيد) إيه.. هو موجود ولا نزل؟

ينزل فين بس يا أستاذ إبراهيم؟

يعنى إيه ؟

تساءلت بصوت مرتعش: (صلاح عبد السيد)؟.. إزاى؟

(صلاح عبد السيد).. 3 سنين مرض

(صلاح عبد السيد) بقاله أكتر من 3 سنين راقد في السرير بجلطة في المخ.. دراعه ورجليه واقفين خالص.

ضربتنى الصاعقة.. ارتعشت السماعة في يدى.. غاب الأفق تحت غمام داكنة.. زحفت على أصابعى الممسكة بالسماعة دموع ساخنة إلى حد الغليان.. تساءلت بصوت مرتعش: (صلاح عبد السيد)؟.. إزاى؟

تناهى إلى صوت بكائى خفيضا.. ارتخت يدى بالسماعة المرتعشة مستسلما لموجة بكاء هائلة ذرفتنى أمامها في وديان الحسرة والألم.. هرعت زوجتى على صوت بكائى قادمة من المطبخ تتساءل في فزع عن الخبر الحزين..

تناول ابنه المستشار الخلوق السماعة مكملا المكالمة: إنه بدا في التحسن قليلا مع العلاج المستمر.. نقل التليفون إلى (صلاح عبد السيد) الذى صاح هاتفا كطفل تائه في الزحام.. ورأى أبيه بجانبه فجأة: إبراهيم.. إبراهيم.. كده تنسانى يا إبراهيم؟

أجهش هو الآخر بالبكاء.. كانت الدموع التي نزرفها سويا كأننا نفرغ بحر البعاد من موجه لنتقابل في منتصف القاع.. انقلبت أحزانه إلى فرحة غامرة حينما أخبرته برغبتى في زيارته بصحبة القاص (محمد عبد الواحد).

ضرب لنا موعدا الأسبوع التالى لننطلق سويا في سيارة (محمد عبد الواحد).. كنت أحسه يسابق الريح للقاء.. في الطريق اتصل بى (صلاح عبد السيد) يطمئن على سلامة الرحلة فشعرت بمحمد ينتشى بسماع صوته.

تتبعنا تعليمات الـ gps  حتى وصلنا أسفل بيته حيث كان ينتظرنا ابنه المستشار أمام باب العمارة.. صعدنا خلفه السلالم.. بمجرد أن أدار المفتاح في باب الشقة طالعنا (صلاح عبد السيد) قادما مستندا على عصاه.. يتحرك نحونا حثيثا، لكن بلهفة عارمة..روحه تسبق خطواته المقيدة بأغلال الحبال العصبية.

تعانقنا طويلا.. يتحسس كلانا بكفه المفرود على الظهر وجود الآخر.. نرتشف من الضمة ما يطفئ ظمأ السنين الطويلة.. جلسنا في بهو بيته نسترجع ذكريات الأماكن والأشخاص و الأحداث (لها مقال قادم).

لاحظت نظراته المستمرة ناحية (محمد عبد الواحد).. كنت أعرف هذه النظرات جيدا حينما يرتشف (صلاح عبد السيد) وجود شخص أمامه ليتحول بعدها إلى شخصية في عالمه الفني – رغم قراره النهائي بالتوقف عن الكتابة.. ورغم نصيحة الطبيب بالاستمرار كنوع من العلاج و تفريغ الضغوط.

الإيقاع اللغوى الجرئ الذى يتفرد به (صلاح عبد السيد) عن أي كاتب آخر

إيقاع اللغوى يتفرد به (صلاح عبد السيد)

كان يرى في (محمد عبد الواحد) ملخصا لكشف حسابه الختامي في الحياة.. هاهو قارئ نهم لكل أعماله.. يقدر له قيمته التي لم تمنحها له الدولة.. بل وكاتب متميز يسرد له بصماته على كتابته.. بخاصة الإيقاع اللغوى الجرئ الذى يتفرد به (صلاح عبد السيد) عن أي كاتب آخر.

بعد أكثر من ساعتين التقطنا خلالهما عدة صور سويا.. استأذنا في الانصراف.. أثناء ركوبنا السيارة أسفل المنزل نبهنى (محمد عبد الواحد) إلى وقوف (صلاح عبد السيد) في الشرفة.. التفت ناحيته.. كان يتابعنا متفحصا وهو يستند بكلتا يديه إلى عصاه مرددا: مع السلامه يا إبراهيم .

قال لى (محمد عبد الواحد) انه كان يرى في وقفته في الشرفة لحظة لابد أن يخلدها مثال.. وقفة لابد أن تسكن تمثالا من جرانيت يقاوم الزمن.. كنت أتابع على طريق العودة الشجر المتراجع في سرعة أفكر في عنوان لهذا التمثال فلم أجد.

بعد شهور قليلة جاءني الخبر الذى كتب العنوان على يافطة سوداء.. تمثال الوداع :

……………….

و..

في محيطك يا صلاح..

ملين سفينة فضة

تتوضي بالسماح.

وتكون للكل وردة

يا مدرسة أساتذه..

يا رائد الحروف

حطيت لحروفنا همزة..

ولا يوم حسيت بخوف

الله يا عم حمزة؟؟

قاومت في الظروف

وفارقت بعد شدة..

في رحلة الجراح.

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتية لبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.