كتب: محمد حبوشة
ظهرت البيئة الشامية في (بيت أهلي) كجزء مهم من البيئات المحلية السورية المعروفة بالعراقة والأصالة والتمدن والتي أسهمت بشكل كبير في الخلطة السحرية للهوية السورية المتعلقة بشعبها وأعرافها وطبيعتها ومنطقها وكل ذلك يتكثف بحقيقة واحدة هى (حضارتها).
يلاحظ ذلك قبل كل شيء، بالهوية الوطنية لأهلها، في مقاومة الاستعمار الفرنسي في مرحلة من أهم مراحل التاريخ الوطني السوري من أجل الاستقلال، فالبيئة الشامية كما ظهرت في (بيت أهلي)، ومنذ حلقاته الأولى قامت على مرتكزين في الصنعة الدرامية هما (المكان والزمان).
فالمكان، كما ظهر على الشاشة، يعيد للبيت الشامي رونقه وجاذبيته وأصالته التي تعرفنا عليها في كل إبداعات (نزارقباني وإلفة الإدلبي وقمر كيلاني)، وكل من كتب عن دمشق.
تبدى المكان في (بيت أهلي) أولا في لعبة الإخراج وعاء سحريا من أوعية الدراما في زمانها وشخوصها وصراعاتها ، فكشف عن كل الهوية الدمشقية دفعة واحدة، بما تحمله من رقي معماري، واجتماعي ، وسلوكي، ومندمج مع الصراع الأكبر الذي هو في هويته صراع وطني من أجل الاستقلال.
تبدأ أحداث (بيت أهلي) باغتيال المناضل الوطني السوري (عبد الرحمن الشهبندر)، هذا الحدث الكبير في بعده الدرامي، لم يضعف أثر الصورة والمكان والتفاصيل المتعلقة بالمجتمع الذي يظهر فيه أمثال (الشهبندر والقوتلي) في عصرهما، ولهذا مكان آخر قد نتفق في تفاصيله أو نختلف مع مايقدمه المسلسل على صعيد المضمون.
حياة (البرجوازية السورية)
ظهرت الشام في صورة حياة (البرجوازية السورية) ذلك الزمان (راقية، حضارية، منتجة، فاعلة في السياسة والإقتصاد)، وتمثل المجتمع فيها متناغما مع عصره، وواضحا في تفكيره، وطبيعيا في تعاطيه مع المستجدات.
كظهور رجال الدين من مختلف الطوائف في التعزية باستشهاد (الشهبندر)، وتآلف الأزياء التقليدية مع المودرن في الخليط السكاني.
ورغم أن الملاحظة الأساسية المتعلقة بمكان التصوير (لوكيشن للبيئة الشامية)، أعد حديثا لصناعة الدراما، إلا أن ظهور المكان لألوان زاهية تدل على جدته، تم كسرها في الإكسسوارات، والانتقال إلى أماكن أخرى.
يبدو هذا في الانخراط الاجتماعي في لعبة التكافل الاجتماعي الناضجة في الوعي السياسي، وتخوف الكتلة الوطنية المتهمة بقتل (الشهبندر)، من أهمية هذا الاتهام على الصعيد الوطني.
ويظهر هذا أيضا في تفاصيل الحارة الشامية وأناقتها: السيارات، المحلات، حركة الإنسان وحيويته، وفي تفاصيل البيت الشامي وأناقته كهندسة معمارية وترتيب أثاثه حتى على صعيد فناجين القهوة.
ثم رقي سكانه في الملابس والطعام (المائدة المفتوحة)، وظهور الورود إضافة ظهور عازف الكمان في الحلقة الأولى، وظهور الجرامافون في الحلقة الرابعة.
هنالك ظهور للمرأة كعنصر فاعل ومهم وليست تابعا، وقد اتضح هذا في ظهورها كعنصر أساسي في المجتمع منذ الحلقات الأولى، فكانت قوية أنيقة، تفكر بحداثة ، وبعمق، وتشارك في الحياة العامة.
ظهور الكتب في أحد الحلقات أمام المكتبة وكأنها مسألة مألوفة، وإن كان على رأسها القرآن الكريم .
هذه الملامح التي أرادها سيناريو (بيت أهلي) في المشاهدة الأولية للمسلسل، وبالطبع ينشاهد ملامح أكثر وأوضح، ولكننا في الوقت نفسه انتظرنا كثيرا حتى تتبلور الصراعات والشخصيات على النحو الكامل لتشكيل وجهة نظر كاملة!
رسائل (بيت أهلي)
يحمل مسلسل (بيت أهلي) عدة رسائل دفعة واحدة، من بينها أنه يريد كشف أهمية المكان التاريخية في ضمير العالم وفي حقيقة نفسه (يوحنا المعمدان مركز الشام وتمسك النبي بالحق هذا شرش من شروش الشام ).
إضافة إلى كشف حقيقة البيئة الشامية في جماليتها كمكان حضاري يعيش أحداثا كبرى، فيه مثقفون وأطباء وسياسيون وتجارة وصناعة وكهرباء وماء.
كما يريد تعريفنا في طبيعة (البرجوازية الدمشقية) وما تحمله من وعي سياسي وطني مقاوم للاستعمار، ولذلك قدمت البيوت المختارة للتصوير خدمة كبيرة على هذا الصعيد (عدا ديكور الحارة)، ونجحت في تقديم صورة البيئة الشامية كما يريدها النص.
أراد مسلسل (بيت أهلي) أيضا تقديم نفسه من خلال رواية تلفزيونية سلسة في تفاصيلها وأحداثها وقصص الحب والوفاء التي فيها، مستخدما الغموض في بعض المسارات.
وهنا حملت القصص جماليات سردية ناجحة متشابكة مع الأحداث، لكن (الغموض في المعطيات) لم يتمكن من سد ثغرة تأخر (الأكشن) الذي اعتاد الجمهور عليه في مسلسلات البيئة السابقة مترافقا مع كل خطوة تتقدم بها الأحداث ، حتى لو كان الأكشن مفتعلا.
نتعرف على هوية شخصية (أبو عدنان) الغائب من أداء (أم عدنان) في شرودها ونومها وفي صلاتها، واستحضار طيفه، فإذا هى شخصية عملت ضد الاحتلال ويستهدفها الفرنسيون وعملاؤهم بالتشويه وتدمير ثوابتها من الداخل.
وهذا يعني أن الشخصية (صياح) بحاجة إلى حضور قوي في (الصراع)، ومع أن هذا الغموض ساهم شيئا فشيئا في كشف شخصية (نوري)، وبمصير آخر لأبي عدنان، إلا أن المشاهد كان بحاجة إلى وجوده القوي ولو عبر استدعاء الذاكرة التي لم تكن كافية.
هناك قصص حب فرعية، شفافة، سلسة، أداها الممثلون ببراعة، من بينها قصة الحب بين (خالد وهدى) القادمة من (حي القنوات)، وتلجأ إلى محل الموبيليا الذي يعمل به هربا من الفرنسيين، وبين (سلمى وخيرو).
كثير من البتر الإخراجي
ويبدو أن هناك الكثير من البتر الإخراجي في هذين الخطين أضاع شحنة الحب الحقيقية فيهما، ناهيك عن بروز نوعين من الحب الأول بين (أم عدنان) وزوجها (حب الوفاء)، والثاني بين نوري ويسرى (حب المصلحة)، ويتفرع عنه حب وليد بين (نوري) وابنة (أبي عدنان) وهناك مسار لحب ينشأ بين الدكتورة (سلمى وعرفان).
وأيضا هناك ثنائيات في الصراع الاجتماعي والوطني كالصراع بين شخصيتي (صبحي وهناء)، وهو صراع تعرفنا عليه تباعا، ويحمل بعده الدلالي الطبقي والاجتماعي (علاقة الريف بدمشق).
منذ السعي الفرنسي لاستبعاد (ناظم بك) ورسالته الدلالية خطرة أي أن أي زاوج طبقي بين البرجوازية المدنية والريف غير قادر على الاستمرار ولا الإنجاب .
ربما يبدو أن تقنية الرواية التلفزيونية التي اتبعها (فؤاد شربجي) في كتابة مسلسله (بيت أهلي) لم تحقق المأمول منها، إذ رغم تعدد الخطوط الدرامية والمواضيع والشخصيات التي يطرحها العمل، فإنه لم يشهد تصعيدا جاذبا وموشوقا يمكن أن يلفت نظر المشاهد.
بقي (بيت أهلي) يداور الأحداث دون تدفق حقيقي يلغي عنصر الملل، لدرجة يمكن القول معها بأن البناء الروائي التلفزيوني كان مهلهلا إلى حد كبير رغم براعة أداء (أيمن زيدان سلوم حدد، صباح بركات وصفاء سلطان).
ورغم الانطلاق من حادثة اغتيال الطبيب (عبد الرحمن الشهبندر)، بكل ثقلها الاجتماعي والسياسي، فإن التأسيس الدرامي لما يتبعها كان مترهلا إلى حدما ، وكأن العمل مكتوبا لغير هذا الزمن.
إذ لم ينجح (أبو الدراما الشامية) الذي كتب سابقا (أبو كامل، الخشخاش، الداية) من مواكبة التغيّرات في المزاج العام للمشاهدة، وللدراما الشامية النافعة كما وصفها مرة. بنفسه.
لا يكفي في (بيت أهلي) أن العمل يوثق للحياة الدمشقية في أربعينيات القرن الماضي، ويبتعد عن الفانتازيا التي أحاطت بالدراما الشامية في السنوات الأخيرة، إذ رغم جماليات الأفكار التي مرت في (بيت أهلي) من تحول جنازة الشهبندر إلى تظاهرة شعبية، والمرور على نشاط الكتلة الوطنية كلاعب بارز ينشد التحرر من الاستعمار.
مع التعريج الصريح على الطلبة السوريين في الجامعة الأمريكية في بيروت وانخراطهم في العمل السياسي، والنقاش المحتدم دوما مع المستفيدين من الاحتلال، إلا أن العبرة ليست في الموضوع وإنما في كيفية طرحه بشكل عصري يواكب التطوات الحديثة في البيئة الشامية.
ورغم الوعود بدراما اجتماعية مليئة بالإثارة والتشويق، فإنها أخلفت الوعد – إلى حد ما – في (بيت أهلي) الذي يجمع بين الأحداث التاريخية، والدراما الاجتماعية والكوميدية وحتى الرومانسية.
تغييرات جوهرية يتخللها الملل
إذ تمر حلقات كاملة من دون تغييرات جوهرية يتخللها الملل والغموض، وبغض النظر عن الصراع القوي بين (نوري/ أيمن زيدان) وبين أبو عدنان (سلوم حداد) إلا أن ذاك الصراع لم يوازه توترات حقيقية في الحكاية من البداية وحتى النهاية.
حاول النص إيصال رسائله من أن الاغتيال الذي حصل في الحلقة الأولى ليس فقط لشخصية سياسية مهمة، وإنما اغتيال لحي ومدينة كاملة، إلى جانب مجموعة القضايا المتعلقة بالظلم والفساد والمحسوبيات، وتعزيز قيم التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع، إلا أن بطء الإيقاع في بناء النص أوقع العمل ككل في دائرة عدم الجاذبية.
ولم يستطع المخرج (تامر إسحق) المشهود له في الأعمال الشامية، رغم ما أضافه من جماليات كثيرة على صعيد الصورة، وعلى مستوى إدارة الممثلين، لكن ذلك لم يكن كافيا لانتشال العمل بخطوطه الدرامية المتنوعة من فخ الملل.
كما إن الاتكاء على نجوم الدراما السورية في (بيت أهلي) من رتبة (أيمن زيدان وسلوم حداد) كقطبي صراع، رغم ما يضيفه من وزن للعمل ككل، إلا أن الحكاية هى من تقدر أن تلمع النجمين.
وحتى إن كان هناك العديد من الأسماء من مثل (صفاء سلطان وصباح بركات، وعبد الفتاح مزين، وعبير شمس الدين، ويزن السيد، ومديحة كنيفاتي، وجيني إسبر، ورامي أحمر، وعلاء زهر الدين، وغزوان الصفدي).
لكن تشعب الخطوط الدرامية وعدم مواكبة تصعيد حقيقي للأحداث، جعل (بيت أهلي) رواية تلفزيونية رسائلها مهمة لكن معماريتها غير جاذبة، على مستوى الشكل والمضمون الجاذب.
أيمن زيدان بشخصية (نوري)، وسلوم حداد بشخصية (أبو عدنان) ، وصباح بركات بشخصية (أم عدنان) وعبد الفتاح المزين بشخصية (صبحي)، وصفاء سلطان بشخصية (يسرا)، إضافة إلى عبير شمس الدين، ويزن السيد، عدنان، وجيني أسبر، ومديحة كنيفاتي ولمى بدور ووائل زيدان وتيسير إدريس والليث المفتي.
المهم في الأمر أن مسلسل (بيت أهلي)، ومنذ الحلقات الأولى، استوقفني وشكل عندي عدة انطباعات أحببت الكتابة عنها، وذلك لأنها تتعلق بالبيئة الشامية التي تعرضت مواسمها السنوية المتتالية لانتقادات هامة تتعلق بالتعاطي مع تاريخ دمشق وأهلها وأخلاقها وأعرافها وتقاليدها.
في النهاية أستطيع القول أن مسلسل (بيت أهلي) كان مشروعا مهما في الرواية التلفزيونية السورية، قدم هندسة متميزة حديثة في الكتابة الدرامية التلفزيونية رغم الملاحظات التي أوردتها حول القصة السيناريو والإخراج.